التّيّار الذي دمّر التيار!
كتب رامي الريّس لـ “هنا لبنان”:
يرتقي المأزق “التاريخي” اللبناني مع قطاع الكهرباء إلى مرتبة المأساة الوطنيّة التي سبّبتها تيّارات سياسيّة تولّت هذه الحقيبة على مدى سنوات ولم تفلح في توفير الطاقة الكهربائيّة على مدار الساعة رغم الوعود الفارغة المتكرّرة. أمّا الأعذار التي سيقت في هذا المجال فكانت أقبح من الذنوب التي ارتُكِبَت: تارةً “ما خلونا”، وتارةً أخرى استئجار بواخر لتوليد الطاقة بتكاليف خياليّة تتجاوز عشرات المرّات بناء المعامل الثابتة، وطورًا من خلال سياسات ملتوية لا تحقّق الهدف المرجوّ منها.
لقد أهدر التيار البرتقالي من الخزينة اللبنانيّة ما يزيد عن 40 مليار دولار من الخسائر على مدى السنوات المنصرمة، وها هي شبكة الكهرباء اللبنانيّة تلفظ أنفاسها نتيجة التدمير المنهجي الذي تعرّضت له. نعم، ثمّة تدمير منهجي تعرّض له قطاع الطاقة بفعل الإصرار على إفشال كل الحلول العلميّة والمنطقيّة واستبدالها بخيارات لا تمت إلى دراسات الجدوى الاقتصاديّة أو المعرفة الهندسيّة بصلة تُذكر: محطة سلعاتا نموذجاً!
لقد رفض التيار بوزرائه المتعاقبين كل العروض التي وردت إلى لبنان من الصناديق العربيّة التي تكفّلت ببناء معامل الإنتاج بتمويل ميسّر وطويل الأمد (هو أشبه بهبة) مع فترات سماح وسداد طويلة وفوائد منخفضة جداً. العذر الشكلي كان أن الإجراءات البيروقراطيّة تستنزف الكثير من الوقت. مر الوقت ولم يتم إنشاء المعامل. أما العذر الحقيقي فهو عدم التمكن من تمير صفقات وسمسرات على ضفاف الاتّفاق مع الصناديق العربيّة.
الأمر ذاته تكرر مع شركة “سيمنس” الألمانيّة التي زارت إدارتها العليا لبنان برفقة المستشارة الألمانيّة السابقة أنجيلا ميركل. ومجدداً، رُفض العرض الألماني نظراً للشفافيّة العالية التي تعمل بموجبها الشركات الألمانيّة. لا بل أبلغ الوزير اللبناني ضيوفه الألمان أن لديه خبراء يتمتعون بكفاءات عالية، فطلب منه المسؤول الألماني إيفاد البعض منهم إلى ألمانيا للإستفادة من خبراتهم بتوليد الطاقة! ألا يُذكّر هذا القول بتلك العبارة السخيفة التي قالها أحد وزراء الخارجية اللامعين من أن لبنان قادر على “تعليم” واشنطن ولندن كيفيّة إدارة البلاد دون موازنة!
كم هو مكلف هذا الاستخفاف بالشؤون الوطنيّة وهذه الصبيانيّة في التعاطي بالقضايا المفصليّة الكبرى. الكلفة هنا لا تنحصر في قطاع الكهرباء، ثمّة أكلاف هائلة في السياسة والاقتصاد وعلاقات لبنان الخارجيّة التي دُمرّت بالكامل.
هل هي مجرّد مصادفة أن ينتقل لبنان من مرحلة تلقي العروض لبناء المعامل إلى مرحلة الغياب التام عن الخريطة العربيّة والدوليّة؟ ألم يتوقف أحد من المسؤولين عند كلام وزير النقل بأن لبنان لم يتلقَّ عمليّاً أيّ عروض جديّة لإعادة بناء مرفأ بيروت؟ إن خطورة هذا الكلام لا تقتصر على فكرة أن لبنان خسر علاقاته الخارجيّة التي كانت تشكل رافعة هامة وضروريّة لهذا البلد الصغير، بل أيضاً لأنه فقد دوره التاريخي في أن يكون في قلب الحركة الاقتصاديّة والتجاريّة في الشرق الأوسط والمنطقة العربيّة.
ففي ظل عدم الاكتراث الرسمي القديم لميناء طرابلس (رغم توسعة قدراته الاستيعابيّة بشكل كبير)، وفي ظل توقيع اتفاقات إقليميّة كبيرة لربط موانئ فلسطين المحتلة مع موانئ إقليميّة أخرى؛ ها هو لبنان يترنح ويتداعى ويرزح تحت أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة هي من الأكثر ضراوة على الصعيد العالمي منذ نحو 150 سنة، وفق توصيف البنك الدولي.
إزاء كل هذا المشهد، تقفز وزارة الطاقة اللبنانيّة التي تعيش خارج التاريخ والجغرافيا لتقترح زيادة التعرفة قبل زيادة التغذية! يا لها من وقاحة! في ظل المشهد السوداوي القاتم الذي يمّر به قطاع الطاقة، تتقدّم وزارة الطاقة باقتراح سخيف وخارج زمانه ومكانه ولا يساهم في معالجة لب المشكلة لا سيّما أنه يأتي دون أن يترافق مع أي خطوات لضبط الهدر ومكافحة الفساد. ثم، إلى متى تأخير إطلاق الهيئة الناظمة للقطاع؟ من الواضح أن المطلوب حصراً هو تعطيل كل الخطوات الإصلاحيّة. يا له من تيّار إصلاحي لم يعرف أن يعالج مشكلة التيّار الكهربائي!
مواضيع مماثلة للكاتب:
7 أكتوبر: منعطف جديد في الشرق الأوسط! | لبنان يُهمَّشُ أكثر فأكثر! | إلى متى انتظار تطورات المشهد الإقليمي؟ |