ملفّ المرفأ رهينة “توازن رعب قضائي”


أخبار بارزة, خاص 25 آذار, 2023

“الستاتيكو” الجديد قائم على “توازن رعب قضائي”، يقضي بإبقاء البيطار مقيّداً في موقعه، حتى لا يأخذ قرار ادعائه على النائب العام التمييزي أي صفة تنفيذية

كتب يوسف دياب لـ “هنا لبنان”:

لم يعد ثمّة داعٍ لتتبع مسار التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، فالتطورات التي أعقبت إعلان المحقق العدلي القاضي طارق البيطار استئناف تحقيقاته، أدخلت الملف في المجهول وأرست معادلة “توازن رعب” بينه وبين النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، غداة إفراج الأخير عن الموقوفين دفعة واحدة، والادّعاء على المحقق العدلي كـ “منتحل صفة”.

لا تقف أزمة التحقيق بجريمة العصر عند حدود مكتب البيطار أو على باب ديوان عويدات، الملفّ بات يطرح مصير سلطة قضائية عاجزة على إيجاد الحلول لمشاكلها، حتّى الضغوط الآتية من خارج أسوار قصر العدل أخفقت بفتح كوّة في جدار الأزمة المستفحلة من أكثر من سنة، فلا عظات البطريرك بشارة الراعي والمطران الياس عودة المتتالية نجحت بتغيير الواقع أو بإقناع “قوى الأمر الواقع” بتحرير التحقيق من قيودها، ولا اللقاءات التي عقدها وزير العدل هنري الخوري مع رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات أتت أكلها، ولا حتى زيارات مجموعة العمل الأميركية من أجل لبنان للقيادات السياسية بدّلت في قناعات المعطّلين، رغم أنّها أبلغتهم رسالة القلق المتزايد لدى صنّاع القرار في واشنطن، من الإمعان في ضرب استقلال السلطة القضائية وإخضاعها لنفوذ أهل السلطة، وضرب العدالة في ملفّ انفجار المرفأ.

الكلّ بات مسلماً أو مستسلماً لمشيئة تعطيل القضاء وتكبيله في الملفات الحساسة، والمثل القائل إنّ “القضاء على الضعيف فقط” بات واقعاً يعيشه الناس يومياً، حتّى “الصفقة” التي قيل إنّها أبرمت مؤخراً، وتقضي بتنحية البيطار عن ملف المرفأ، مقابل الإطاحة بالقاضية غادة عون، وكفّ يدها عن التحقيق بملفات المصارف، سرعان ما أجهضت لصالح الأخيرة، بدليل أنّ غادة عون مستمرّة في ممارسة مهامها ومتخطية قرارات رؤسائها، بينما يلازم البيطار منزله بانتظار فرجٍ بعيد المنال.

هل بات البحث بملفّ المرفأ من المحرمات؟ الجواب نعم، فبمجرّد استبعاد هذا البند عن جدول أعمال مجلس القضاء الأعلى، عادت اجتماعات المجلس إلى الانعقاد أسبوعياً من دون انقطاع، بعض زوّار القاضي سهيل عبود يؤكدون لـ “هنا لبنان” أنّ هذا الملفّ “سيبقى أولوية، ولا بدّ من إعادة إطلاق عجلة التحقيق وفق تسوية لا غالب ولا مغلوب، شرط أن لا تكون هذه التسوية على حساب العدالة”، فيما غاب التفاؤل كلياً لدى أهالي الشهداء الذين التقوا عبود الخميس الماضي، لا بل إنّ بعضهم تحدث عن “حالة إحباط”، طالما أنهم لم يحصلوا إلّا على الوعود.

بعد مضي 15 شهراً على التعطيل، والإمعان في تقديم مزيد من الدعاوى التي تحاصر البيطار، يصعب التكهّن بعودة عجلة التحقيق إلى الدوران مجدداً، كلّ السبل مقطوعة أمام الحلول، أهمّها الإخفاق في تعيين أعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي يوكل إليها مهمّة البتّ بدعاوى “مخاصمة الدولة عن أخطاء المحقق العدلي”، وغياب الحماسة لدى محاكم التمييز للبتّ بأيّ من دعاوى ردّ البيطار.

أمام إصرار البيطار على الإمساك بالملفّ رغم الألغام التي تواجهه، وإزاء تصلّب عويدات بالمضي بالادّعاء على المحقّق العدلي كـ “منتحل صفة”، لا يتوقّف السعي لتضييق مساحة الخلاف في ما بين الرجلين، بموازاة محاولات تقريب وجهات النظر بين القاضي عبّود وبين زملائه أعضاء مجلس القضاء، خصوصاً وأنّ رئيس مجلس القضاء صاحب الحقّ الحصري بتعيين قاضي التحقيق للنظر في دعوى عويدات ضدّ البيطار لا يبدو مستعجلاً لهذه الخطوة، لأنّ قراره سيعقبه تعيين هيئة اتهامية يشكلها المجلس بالإجماع أو بالأكثرية، وبالتالي ثمة توجّس من هيئة اتهامية تضمّ قضاة قد يكون لديهم موقف سلبي من البيطار ويحضّرون للإطاحة به.

حتى الآن لم ييأس رئيس مجلس القضاء الأعلى من محاولات رأب الصدع القضائي، هو مستمرّ بعقد لقاءات تشاورية مع رؤساء محاكم التمييز الأصيلين والمنتدبين لوضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وتشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز من الرؤساء الأصيلين والمنتدبين لعلّها تبدأ مهامها قريباً، وتبتّ بدعاوى المخاصمة، ورغم أن خطوة عبّود تحرج الجميع، إلّا أنه يرفض استقالة القضاء من دوره، وهو يدرك بأن الاستسلام للفشل سيفرض حلولاً من الخارج لا تخدم استقلالية السلطة القضائية التي يطالب بها أغلبية قضاة لبنان.

محاولات من هنا وأخرى من هناك، وإن رافقها حسن النيّة، لا يعني أن أزمة ملف المرفأ ومتفرعاته ذاهبة إلى الحلّ، أو وضعت على سكة المعالجة، فالواقع يشير إلى أنّ دعم القاضي سهيل عبود المطلق للبيطار، ورفضه أيّ محاولة لتطييره وفق أي مقايضة أو صفقة تطرح، يقابلها إصرار الآخرين على أن “قبع” المحقق العدلي يشكل المدخل الإلزامي للحلّ، وربما لترييح الوضع المتأزم سياسياً وحتى أمنياً، من هنا فإن “الستاتيكو” الجديد قائم على “توازن رعب قضائي”، يقضي بإبقاء البيطار مقيّداً في موقعه، حتى لا يأخذ قرار ادعائه على النائب العام التمييزي أي صفة تنفيذية، مقابل فرملة اندفاعة عويدات والتراجع عن أيّ خطوة تصعيدية مثل إصدار مذكرة إحضار للمحقق العدلي، وهذا ما أدخل تحقيق المرفأ بـ”كوما” الصراع القضائي الذي يعكس حقيقة الصراع السياسي، ويبقيه مجمداً إلى ما بعد الاستحقاق الرئاسي وتشكيل حكومة جديدة، عندها قد نكون أمام معادلة جديدة، منطلقة من حتمية الإطاحة بالتركيبة القضائية القائمة برمتها، لكنّ القاصي والداني يدرك أن أي تركيبة قضائية جديدة تتوقف على هوية الرئيس وبرنامجه الذي إما يعكس واقعاً إصلاحياً جديداً أو يرسّخ هيمنة قوى الأمر الواقع التي يعيش البلد تحت حكمها منذ عقود.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us