عبد الناصر ينسف سرديّة الممانعة من ضريحه

شهادة عبد الناصر عقلانية وتاريخية بكل معنى الكلمة. إنّها الحقيقة الصعبة التي تعبر فوق ضجيج “المزايدات” و”الممانعة” وتسكن في قلب الواقع. لقد قالها الزعيم الذي قاد الأمة إلى المعارك بنفسِه: كان يمكن تحصيل الكثير قبل كلّ تلك الحروب، أمّا بعدها فكانت الخسارات متتالية ومؤلمة.
كتب أسعد بشارة لـ”هنا لبنان”:
صحيح أنّ صوت الرئيس الرّاحل جمال عبد الناصر كان آتيًا من الماضي، إلّا أنّه في التسريب الصوتي الذي بثّته قناة “العربية”، بدا كأنه يخاطِب المستقبل مباشرةً، ويتحدّث إلى الحاضرِ بلغة الواقع لا أوهام الشعارات. هذه الشهادة المدوّية، التي خرجت من ضريح الزعيم، نسفت بسلسلة مواقف صادمة كلّ ما بُني لاحقًا من سرديّات وهمية تحت راية “الممانعة”، بل ووجّهت ضربةً قاضيةً للنسخة الثانية من هذا الخطاب، التي لا تزال تتغذى على الأوهام وتستثمر في دماء شعوب المنطقة.
في التسجيل، يكشف عبد الناصر أن لا إمكانية لتحرير فلسطين “من النهر إلى البحر”، مشيرًا إلى أن مِصر لا يمكنها أن تبقى تقاتل وحدها، فاتحًا الطريق لمن يريد القتال من الجزائر إلى ليبيا إلى “كل الفصائل الرومنسية”، في إشارةٍ ساخرةٍ إلى أولئك الذين يجيدون الخطابة والشعر أكثر مما يجيدون خوض المعارك أو انتزاع الحقوق. إنّها لحظة نادرة يخرج فيها زعيمٌ قوميّ عربيّ عن الرواية الجاهزة ويقول ببساطة ووضوح: لقد خسرنا الكثير، وكان يمكن أن نربح أكثر لو اخترنا العقل على العاطفة.
عبد الناصر، الذي يُعتبر الأب الروحي للتيار القومي والمقاوم، ينصف من قبره الرئيس أنور السادات، ويعطيه براءةً متأخرةً على خياره بالذهاب إلى التسوية السياسية، بعد أن اكتشف هو نفسه عبثية الحروب المجّانية والخطابات الفارغة. بل إنّه يفجّر نظريات “البطولة” المُتمركزة حول القصائد والمنابر، واضعًا إصبعه على الجرح الفلسطيني والعربي: كلّ حرب خاسرة كانت تُفقد الفلسطينيين مزيدًا من الأرض والحقوق، وكلّ شعار حماسي كان يُبعد الحلّ أكثر ويغذّي مأساةً أطول.
شهادة عبد الناصر عقلانية وتاريخية بكل معنى الكلمة. إنّها الحقيقة الصعبة التي تعبر فوق ضجيج “المزايدات” و”الممانعة” وتسكن في قلب الواقع. لقد قالها الزعيم الذي قاد الأمة إلى المعارك بنفسِه: كان يمكن تحصيل الكثير قبل كلّ تلك الحروب، أمّا بعدها فكانت الخسارات متتالية ومؤلمة.
في زمنٍ تعمّ فيه الأكاذيب السياسية، تأتي كلمات عبد الناصر من الماضي لتُعيد التوازن إلى المعادلة. هي ليست مجرّد وثيقة صوتية، بل صفعةً تاريخيةً للذين استثمروا في “الوهم المقاوم” وجعلوا من الشعارات جدرانًا تحجب عن شعوبهم الحقيقة: إنّ التحرير لا يكون بالشعر، ولا بالتضحية بشعبٍ واحدٍ بينما يتفرّج الآخرون. بل بالحكمة، وبالاعتراف بالواقع، وبالتفاوض عندما يكون ممكنًا.
من ضريحِه، تحدّث عبد الناصر… فأسكت صدى المُمانعين جميعًا.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() تحريض إيراني على لبنان | ![]() جوزاف عون في الإدارات المهترئة | ![]() إيران تنحني لترامب |