لبنان يترقّب صيفًا سياحيًا واعدًا: عودة الخليجيين بيْن آمال الانتعاش وتحدّيات الواقع

نشهد اليوم فرصةً ذهبيةً لإعادة لبنان إلى الخريطة السياحية، لكنّ هذه الفرصة تحتاج إلى بيئةٍ حاضنةٍ. علينا أن نُظهر أنّنا على قدر الثقة التي يمنحنا إيّاها زوّارنا، وخصوصًا أهل الخليج الذين لطالما أحبّوا لبنان واعتبروه بيتهم الثاني. فنحن لسنا فقط في صدد موسمٍ سياحيّ ناجحٍ، بل في بداية مرحلةٍ جديدةٍ تُعيد الثقة إلى قطاعٍ كان من الأعمدة الأساسيّة للاقتصاد اللبناني.
كنبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
بعد سنوات من الغياب القسري بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية، يعود الزوّار الخليجيّون إلى لبنان هذا الصيف، وسط أجواء من التفاؤل والترقّب في الأوساط السياحية، خاصةً بعد القرار الإماراتي الأخير برفع الحظر عن سفر مواطنيه إلى لبنان. هذا التطوّر أعاد الأمل إلى قطاع عانى طويلًا من الجمود، وبات اليوم يتحضّر لموسمٍ واعدٍ قد يكون الأبرز منذ سنوات. ومن المُنتظر أن تحذوَ دولٌ خليجيةٌ أخرى حَذْوَ الإمارات، خصوصًا أنّ الأوضاع الأمنية في لبنان شهدت نوعًا من الاستقرار، ما يشجّع على العودة التدريجية للسياحة الخليجية.
هذا التطوّر يعدّ بمثابة جرعة أوكسيجين لقطاعٍ يعاني منذ أكثر من عقدٍ من التدهور، وسط أزماتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وصحيةٍ ضربت لبنان تباعًا، خصوصًا أنّ السائح الخليجي لطالما شكل حجر زاوية للقطاع السياحي اللبناني، نظرًا لقدراته الشرائية العالية، وإقامته المتوسّطة والطويلة، واعتماده على الخدمات الفاخرة.
وبحسب دراسةٍ أعدّها معهد البحوث السياحية عام 2019، فإنّ السائح الخليجي ينفق في لبنان بمعدل 3 إلى 5 أضعاف السائح الأوروبي، ما ينعكس على قطاعات الضيافة، النقل، التجزئة، والخدمات.
الفنادق ترفع جاهزيّتها
الفنادق اللبنانية رفعت من جاهزيّتها لاستقبال الزوّار، وخصوصًا الخليجيين، في ظلّ مؤشّرات إلى موسمٍ مزدحمٍ بالحجوزات والفعاليات. فبعد سنواتٍ من الرّكود، تشهد المؤسّسات الفندقية في بيروت، وجونية، وجبيل، وصيدا، والبقاع، تحضيراتٍ مكثّفةً لاستقبال الوافدين عبر حُزم عروض تتنوّع بين الإقامة الرّاقية والخدمات الترفيهية.
وفي هذا السياق، يقول مدير أحد الفنادق في بيروت لموقع “هنا لبنان”: “نحن نستثمر حاليًا في تحسين نوعية الخدمات وتدريب الطواقم لاستقبال الضيوف الخليجيين. ونعمل على تحضير برامج سياحية مُتكاملة بالتعاون مع شركات خارجية”.
العديد من الفنادق، لا سيما في بيروت والمناطق الساحلية والجبليّة، سجّلت حجوزاتٍ مرتفعةً تمتدّ حتى شهر آب، وهو مؤشر إيجابي يعكس انتعاش الحركة السياحية وعودة الثقة بالسوق اللبنانية، خصوصًا من قبل الزوار الخليجيين الذين يشكّلون شريحةً أساسيةً من نُزلاء الفنادق في موسم الصيف.
ويضيف: “هذا الإقبال المُبكّر يمنح الفنادق فرصةً للتحضير الجيّد، سواءً على صعيد تحسين الخدمات أو تعزيز الكادر البشري، بهدف تقديم تجربةٍ راقيةٍ تليق بزائرٍ طال انتظاره”.
أمّا في المناطق الجبلية مثل البترون، الشوف، جزين، زحلة، فتشهد الفنادق الصغيرة والبيوت الريفيّة تجهيزاتٍ واسعةً حيث عمد أصحابها إلى توسيع عدد الغرف، وتحسين خدمات الإنترنت، وإضافة باقات للأنشطة الخارجية مثل ركوب الخيل، والمشي في الطبيعة، وزيارات للمواقع التراثية، استعدادًا لاستقبال السياح.
ويُجمع القيّمون على القطاع الفندقي على أنّ صيف 2025 سيكون محطةً مفصليةً في استعادة ثقة الزوّار، شرط الحفاظ على الجودة والشفافيّة في التسعير، وتقديم خدماتٍ تليق بلبنان كوجهةٍ سياحيةٍ راقيةٍ.
المطاعم والملاهي الليلية تتأهبّ
من الحمرا إلى وسط بيروت، ومن جبيل إلى كسروان، تشهد المطاعم والمقاهي إقبالًا تصاعديًا منذ بداية الرّبيع. تُجهّز الإدارات قوائم جديدةً وخطط ضيافةٍ فاخرةٍ لاستقبال الموسم الصيفي.
ويقول خالد نزهة نائب نقيب أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي، لموقع “هنا لبنان”، إنّ “القطاع المطعمي تكبّد خسائر كبيرة خلال السنوات الماضية نتيجة الأزمات المتلاحقة التي أنهكت البلاد وأثّرت في مختلف مفاصل الاقتصاد، ما أدّى بطبيعة الحال إلى تراجعٍ كبيرٍ في حركة الزوّار، وعلى رأسهم الخليجيّون الذين كانوا يشكّلون ركيزةً أساسيةً لهذا القطاع، خصوصًا في المواسم الصيفية”.
وأضاف نزهة: “اليوم، مع بدء عودة الأشقاء الخليجيين إلى لبنان، بدأنا نلمس انتعاشًا تدريجيًا يُعيد الأمل إلى هذا القطاع الحيوي. نترقّب موسمًا واعدًا ونأمل أن تكون الأجواء الإيجابية الحالية مؤشرًا فعليًا إلى انطلاقةٍ جديدةٍ تنعكس خيرًا على الاقتصاد الوطني ككلّ”.
ويلفت نزهة إلى أنّ “النّقابة بالتعاون مع عددٍ من المؤسّسات والبلديات تعمل على تنظيم سلسلةٍ من الفعاليات السياحية والترفيهية في مناطق مختلفة، تهدف إلى إبراز الثقافة اللبنانية بمكوّناتها الغنيّة، وتقديم تجربة متكاملة للزوّار الخليجيين وغيرهم”.
كما دعا نزهة الحكومة اللبنانية إلى مواكبة هذا الزّخم عبر تسهيل الإجراءات في المطار، وتخفيف العوائق البيروقراطية، وضمان استقرار الأسعار وجودة الخدمات، قائلًا: “ما نشهده اليوم هو فرصة ذهبية لإعادة لبنان إلى الخريطة السياحية، لكنّ هذه الفرصة تحتاج إلى بيئةٍ حاضنةٍ. علينا أن نُظهر أنّنا على قدر الثقة التي يمنحنا إياها زوارنا، وخصوصًا أهل الخليج الذين لطالما أحبّوا لبنان واعتبروه بيتهم الثاني”.
ويختم نزهة بنبرةٍ تفاؤليةٍ: “نحن لسنا فقط في صدد موسمٍ سياحيّ ناجحٍ، بل في بداية مرحلةٍ جديدةٍ تُعيد الثقة إلى قطاعٍ كان من الأعمدة الأساسيّة للاقتصاد اللبناني. إذا أحسنّا التنظيم والتسويق، فلبنان قادر على أن يعود كما كان، لا بل أفضل”.
بين الفرص والتحدّيات
في موازاة موجة التفاؤل المحيطة بعودة السياح الخليجيين إلى لبنان، يقدّم الخبير الاقتصادي البروفيسور بيار الخوري قراءةً واقعيةً ومزدوجةَ الأبعاد لموسم صيف 2025، معتبرًا أنّ البلاد أمام فرصةٍ استثنائيةٍ من جهة، لكن أيضًا أمام تحدّياتٍ بنيويةٍ قد تُجهض هذا الزّخم قبل أن يُثمر.
ويشير الخوري إلى أنّ رفع الحظر عن سفر السعوديين والإماراتيين يمثّل خطوةً سياسيةً واقتصاديةً بالغة الأهمّية، من شأنها أن تُعيد التوازن إلى خريطة الزوّار، بعدما غابت دول الخليج عن لبنان لسنوات. ويستند إلى مؤشراتٍ فعليةٍ، كارتفاع حجوزات الطيران والطلب على لبنان كوجهةٍ صيفيةٍ، مدعومةٍ بتحسّن سعر الصرف واستقرارٍ نسبيّ، ليرجّح أن يشهد الموسم المقبل حركةً سياحيةً نشيطةً تتجاوز في إنفاقها المعدّلات التقليدية، لا سيما أن السائح الخليجي يُعدُّ من الأعلى إنفاقًا في السوق السياحية اللبنانية”.
في المقابل، يحذّر الخوري من تجاهل الواقع الميداني، حيث لا تزال البنية التحتية تعاني من ضعفٍ مزمنٍ، بدءًا من الكهرباء والاتصالات، وصولًا إلى شبكة الطرقات والخدمات العامة.
وبرأيه، فإنّ النجاح الحقيقي لا يكمن في استقطاب السياح فحسب، بل في الحفاظ على رضاهم وضمان عودتهم، لأنّ التجربة السياحية المُتكاملة هي التي تصنع الفارق.
ويطرح الخوري خياريْن أمام المعنيين بالقطاع: إمّا المسار الانفعالي الذي يراهن على السّوق ويغفل عن قصور الدولة، أو المسار البراغماتي الذي يرى في الموسم الحالي نقطة انطلاقٍ مشروطةٍ بإصلاحاتٍ ولو محدودة، تتيح تقديم صورةٍ سياحيةٍ لائقةٍ تبدأ من الاستقبال في المطار ولا تنتهي إلّا عند مغادرة الزائر راضيًا.
ويخلص الخوري إلى أن لبنان لا يفتقر إلى المقوّمات السياحية، بل إلى القدرة المؤسّسية على الحفاظ عليها. لذا فإنّ مصير الموسم الصيفي لا يتوقّف على الأرقام وحدها، بل على نوعيّة التجربة ومستوى التنسيق بين القطاعيْن العام والخاص. فبين واقعٍ محفوفٍ بالهشاشة وآخر مبشرٍ بالفرص، يتحدّد مستقبل السياحة، وربّما مستقبل الاقتصاد النقدي في البلاد ككلّ.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() انطلاق موسم المعارض في لبنان: فرصة متجددة لاستنهاض الصناعة الوطنية؟ | ![]() تعديلات منصفة تعيد حقوق “معلمي الخاص” بدءًا من تشرين الأول | ![]() قانون الإيجارات غير السكنية نافذ والمستأجرون في مواجهة المجهول |