من قلب القاهرة… الرئيس جوزاف عون يُعيد وصل بيروت بالعالم العربي

لبنان 19 أيار, 2025

شكّلت زيارة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى القاهرة خطوةً محوريةً لا تخلو من الرمزية والمضمون. فمنذ لحظة وصوله إلى العاصمة المصرية صباح الإثنين، بدعوةٍ رسميةٍ من نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، بدا أنّ اللقاء يتجاوز أطر المجاملة البروتوكولية، ليحمل رسائل سياسية، سيادية، واقتصادية، تضع العلاقات اللبنانية – المصرية على سكّة تفعيلٍ جديدٍ.

في قصر الاتحادية، جرت مراسم الاستقبال الرسمي، قبل أن تنعقد جلسة المباحثات الموسعة، ومن ثم المؤتمر الصحافي المشترك، الذي تحوّل إلى منصةٍ سياسيةٍ عربيةٍ جامعةٍ، أعادت عبر الكلمات الموزونة والتصريحات المشتركة، طرح معادلات المنطقة وتوازناتها، من الجنوب اللبناني إلى غزّة، مروراً بسوريا، فالعمق العربي.

من ضفاف النيل… رسالة محبة إلى بيروت

في مستهل المؤتمر الصحافي المشترك، اختار الرئيس جوزاف عون أن يبدأ من حيث تلتقي الرمزية بالتاريخ، قائلًا: “ذاكرة الناس، هي مستودع الحقيقة الأكثر صدقًا وعمقًا… حين يقولون إنّ مصر أم الدنيا وإنّ بيروت ستّ الدنيا، فهم يعبّرون عن أخوّة ضاربة في جذور التاريخ، منذ أزل الدنيا وحتى أبدها”.
عون ذكّر بنقوش الكرنك التي تحكي عن جبيل منذ أكثر من 3000 عام، وبمشاهد التضامن بيْن العاصمتين في محطاتٍ صعبةٍ، حين تكتّمت بيروت حزنًا على حريق القاهرة، وفاضت صحافتها وأدبها حين أُسكتت الأقلام في مصر.

وحدة المصير اللبناني – المصري
لكنّ البُعد السياسي كان واضحًا أيضًا. فقد شدّد الرئيس عون على تمسّك لبنان الكامل بالقرار الدولي 1701، ليس من باب الالتزام الدولي فحسب، بل من منطلق السيادة الوطنية. وفي هذا السّياق، دعا عون المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته الكاملة في إلزام إسرائيل بتنفيذ بنود القرار، والانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية حتّى الحدود الدولية المُعترف بها والمرسّمة دوليًا، مع ضرورة إعادة الأسرى اللبنانيين كافة.
كما شدّد على أهمية عودة اتفاقية الهدنة لعام 1949 كمرجعيةٍ لضبط التوتّر، وعلى الدور الحاسم الذي تؤديه قوات اليونيفيل في الجنوب. في هذا الإطار، لم يتردّد الرئيس اللبناني في توجيه انتقادٍ واضحٍ للإخلال الإسرائيلي المستمرّ ببنود القرار، وهو موقف انسجم تمامًا مع ما أعلنه الرئيس المصري لاحقًا.
وأوضح: “ندعو المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته في إلزام إسرائيل تنفيذ الاتفاقات، والانسحاب من كامل الأراضي اللبنانية، وإعادة الأسرى، بما يكرّس السيادة اللبنانية الكاملة”.

دعم عربي وازن من القاهرة إلى بيروت
من جهته، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موقفًا داعمًا وثابتًا تجاه لبنان، داعيًا إلى انسحابٍ فوريّ وغير مشروط لإسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلّة، وإلى تنفيذ القرار 1701 كاملًا من دون انتقائية. كما شدّد على أهمية تعزيز دور الدولة اللبنانية وبسط سيادتها على كامل أراضيها، خصوصًا جنوب نهر الليطاني، بما في ذلك دعم الجيش اللبناني وتعزيز حضوره.
وفي هذا السّياق، طرح عون إمكانية استفادة لبنان من خبرات مصر في ملفات متعددة، أبرزها الكهرباء، والغاز، وإعادة الإعمار، والأمن، مع إحياء اللجنة العليا المشتركة بين البلديْن لتفعيل التعاون المؤسسي.

الفلسطينيون في قلب البيان المشترك
القضية الفلسطينية كانت حاضرةً بقوة أيضًا، إذ عبّر الطرفان عن رفضهما التامّ لأي محاولات تهجير للفلسطينيين، وتمسّكهما بحلٍّ عادلٍ وشاملٍ، يقوم على إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ على حدود الرابع من حزيران 1967، عاصمتها القدس الشرقية. كما دعا السيسي إلى حشد الجهود الدولية لإعادة إعمار غزّة، مع ضرورة تمكين السلطة الفلسطينية من العودة إلى القطاع، من دون فرض وقائع ميدانية جديدة.
في هذا السّياق، قال عون: “لا مصلحة لأي بلد أو شعب في منطقتنا أن يستثني نفسه من مسار سلامٍ شاملٍ وعادلٍ… وحده سلام العدالة هو السلام الثابت والدائم”.

اللاجئون السوريون: تعاون مباشر
وفيما يخص الملف السوري، شدّد الرئيس اللبناني على ضرورة التنسيق المباشر بين الحكومتيْن اللبنانية والسورية، لتأمين العودة الآمنة والكريمة للنازحين السوريين، وهي القضية التي تُثقل كاهل لبنان منذ أكثر من عقد. وأعلن عون الاتفاق على تشكيل لجانٍ مشتركةٍ لمتابعة هذا الملف، مع الترحيب بقرار رفع العقوبات عن سوريا، على أمل أن يسهم ذلك في تعزيز الاستقرار في المنطقة.

إعادة الإعمار والتعاون الاقتصادي
لم تكن الزيارة بروتوكوليةً فقط، بل فتحت الباب أمام تعاون اقتصادي مستقبلي، خاصة في ملفات الطاقة، الكهرباء، وإعادة الإعمار.
وقال عون: “يمكن أن نستفيد من مِصر في ملفات كثيرة، بينها الغاز، الكهرباء، ودعم الجيش اللبناني، خصوصًا في مجال العتاد الهندسي للتعامل مع الألغام والأنفاق”.
أمّا السيسي، فأبدى استعداد القاهرة لتقديم الدعم الفني واللوجستي في مختلف المجالات، بما فيها إعادة الإعمار، مؤكدًا: “نرحب بالاستفادة من الخبرات المصرية، وندعو المجتمع الدولي إلى دعم لبنان في هذه المرحلة الدقيقة”.

“عروبة المصلحة”
بعيداً عن الجغرافيا، طرح الرئيس اللبناني فكرةً لافتةً تتعلّق بإعادة صياغة مفهوم العروبة ضمن رؤية مستقبلية، فقال: “ندعو إلى نظام مصلحةٍ عربيةٍ مشتركةٍ، على قاعدة عروبة المستقبل لا عروبة الماضي، أي عروبة تحمي مصالح شعوبنا في عصر متحول ومتسارع”.
واقترح إقامة هيئةٍ ناظمةٍ للمصالح بين الدول العربية، تمهيدًا لإطلاق سوقٍ إقليميةٍ مشتركةٍ تبدأ بين بلديْن اثنيْن وتتوسّع تدريجيًا.
هذا الطرح، إذا ما أخذ طريقه إلى التطبيق، قد يشكّل نقلة نوعية في العمل العربي المشترك.

لقاء مع شيخ الأزهر

كذلك زار الرئيس عون أيضاً مشيخة الأزهر الشريف حيث كان في استقباله عند المدخل الخارجي للمشيخة الإمام أحمد الطيب.
وتحدث الإمام الطيب مهنئاً الرئيس عون على انتخابه، متمنياً له التوفيق في مسؤولياته الرئاسية.

وقال: “إنّ لبنان في قلب كل عربي وكل مصري وأنا اقدر أنّكم انتخبتم في ظل ظروف صعبة ولكن استبشرنا خيراً ونأمل لكم كل التوفيق في عملكم.”

وأكّد أنّ الأزهر الشريف مع الشعب اللبناني ووحدة ارضه آملاً أن يجتمع شمل جميع اللبنانيين حول الرئيس عون، وقال “نحن نؤيدكم في جميع المواقف التي تتخذونها لاسيما تلك المتعلقة بتحرير الأرض”.
ورد الرئيس عون شاكراً للامام الطيب على رحابة استقباله مع الوفد المرافق في هذا الصرح العريق وقال انه يتابع عن قرب المواقف التي تصدر عن امام الازهر خصوصا في ما يتعلق بالحوار بين الاديان من أجل تحقيق المواطنة. وقال الرئيس عون “إنّ المنطقة في حاجة إلى عقلاء مثل الإمام الطيب ونتمنى أن نراك قريباً في بيروت لمزيد من التواصل بين لبنان والأزهر الشريف”.

 

نهاية الزيارة، بداية مسار؟
اختُتمت زيارة الرئيس جوزاف عون إلى القاهرة بجلسات ودّية وصور رسمية، لكنّها فتحت، بما لا شك فيه، صفحةً جديدةً من العلاقات الثنائية. صفحة تتجاوز بروتوكولات الزيارات إلى صياغة شراكة حقيقية في مجالات السياسة، الاقتصاد، الأمن، والثقافة.
هكذا، عاد جوزاف عون من القاهرة، حاملًا “مشروع تواصل”، لا ورقة نوايا… حاملًا أملًا ببناء سلام حقيقي، تنقشه الشعوب في ذاكرتها، كما نقشت جبيل على جدران الكرنك قبل آلاف السنين.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us