زيارة محمود عباس إلى لبنان… بين السلاح والسيادة وحتمية العودة

لبنان 22 أيار, 2025

حطّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أمس، رحاله في مطار رفيق الحريري الدولي في زيارة رسمية إلى لبنان تستمر ثلاثة أيام، تلبيةً لدعوة من الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون. وقد استقبله في المطار وزير الخارجية يوسف رجي، إيذانًا ببدء جولة من المحادثات واللقاءات التي كانت قد سبقتها تحضيرات دقيقة ورسائل سياسية بالغة الوضوح.

ما إن بدأ عباس جولته حتى اتّضح أن لهذه الزيارة نكهة مختلفة، إذ لم تكن بروتوكوليةً فحسب، بل جاءت محمّلة بملفات حسّاسة على رأسها قضية السلاح الفلسطيني في المخيمات، والتي بقيت على مدى عقود بندًا شائكًا في العلاقة اللبنانية – الفلسطينية.

سلاح المخيمات: الخط الأحمر الذي لم يعد رماديًا

بحسب ما كشفه عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، أحمد مجدلاني، لوكالة “الأنباء الفرنسية”، فإن موضوع السلاح الفلسطيني “داخل المخيمات وخارجها” تصدّر جدول أعمال عباس في بيروت، وذلك في ظل توجّه لبناني واضح إلى فرض حصرية السلاح بيد القوى الشرعية تطبيقًا للقرارات الدولية.
وبحسب “الجمهورية”، أكّد عون وعباس التزامهما بمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، وإنهاء أي مظاهر خارجة عن منطق الدولة اللبنانية. كما أكّدا على أهمية احترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أراضيه. وأعلنا إيمانهما بأنّ “زمن السلاح الخارج عن سلطة الدولة اللبنانية، قد انتهى، خصوصًا أنّ الشعبَين اللبناني والفلسطيني، قد تحمّلا طيلة عقود طويلة، أثمانًا باهظة وخسائر فادحة وتضحيات كبيرة”.

وقد جاءت تصريحات عباس في اليوم التالي، لتؤكد أن هذا العنوان لم يعد مجالًا للتأويل، إذ شدّد على أنه “لا رغبة للفلسطينيين بحمل السلاح، لا داخل المخيمات ولا خارجها”. وأكد بشكل صريح: “لن يكون للفلسطينيين أي نشاط خارج إطار القانون اللبناني”.

كلام عباس جاء بمثابة موقف رسمي واضح من رأس السلطة الفلسطينية، يتماشى مع التوجّه اللبناني الداخلي والدولي. ويؤسس لنقلةٍ نوعيةٍ في العلاقة الثنائية، وإن كان لا يخلو من تحديات، خصوصًا في ظل وجود فصائل فلسطينية لا تتبع لمنظمة التحرير، وعلى رأسها “حماس”، التي لم تتلقَّ حتى الآن، وفق تصريحات عزام الأحمد لـ”الحدث”، أي طلب رسمي بسحب السلاح.

البيان المشترك: خريطة طريق جديدة

عقب اجتماع الرئيسين عباس وعون في قصر بعبدا، صدر بيان مشترك شددت فيه الدولتان على عمق العلاقات الأخوية، وأكّدتا على ضرورة التوصّل إلى سلام عادل وثابت في المنطقة، يضمن للفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم المستقلة، ويؤمّن استقرار المنطقة بأسرها.

في الشق السياسي، أدان الطرفان الأعمال العسكرية الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزّة، وطالبا المجتمع الدولي بالتحرّك الفوري لوقفها وتوفير الحماية الكاملة للمدنيين، كما شدّدا على ضرورة تفعيل دور الأمم المتحدة ومؤسساتها في تطبيق قرارات الشرعية الدولية.

أمّا في ملف اللاجئين، فكان الموقف موحّدًا برفض كل مشاريع التوطين والتهجير، والتمسّك بالقرار الأممي 194 الذي يضمن حق العودة. وأكد البيان ضرورة استمرار دعم “الأونروا” ماليًا، لتأدية واجبها تجاه اللاجئين الفلسطينيين.

وفي خطوةٍ عمليةٍ، اتفق الجانبان على تشكيل لجنة لبنانية – فلسطينية مشتركة لمتابعة أوضاع المخيمات، وتحسين الظروف المعيشية داخلها، ضمن احترام كامل للسيادة اللبنانية.

لبنان الرسمي يحسم خيار الدولة

البيان الذي صدر في بعبدا، وتلته الناطقة باسم رئاسة الجمهورية نجاة شرف الدين، لم يكتفِ بالكلمات العامة، بل كرّس مواقف حاسمة: حصرية السلاح بيد الدولة، احترام السيادة، ورفض استخدام الأراضي اللبنانية كمنطلق لأي عمل عسكري.

بحسب “النهار”، زيارة عباس شكّلت إعلانًا صريحًا لنهاية مرحلة، ربما تكون الأخيرة من مفاعيل اتفاق القاهرة، الذي لطالما اعتُبر مرجعية تاريخية لموقع السلاح الفلسطيني في لبنان. فهذا التطوّر يتقاطع مع الضغوط الدولية والعربية المتزايدة باتجاه فرض حصرية السلاح تحت سلطة الدولة اللبنانية، سواء كان فلسطينيًا أو تابعًا لحزب الله.
كما صرّح مصدر خاص ل”نداء الوطن” بأن التركيز على تعزيز التنسيق بين السلطات اللبنانية والفلسطينية يعكس إدراكًا متبادلًا لخطورة الانفلات الأمني داخل المخيمات الفلسطينية، لا سيما في ظل ما شهدته بعض هذه المخيمات من أحداث متكررة خلال السنوات الماضية. ويُستشف من هذا التوجّه وجود نية لتكريس شراكة أمنية وإدارية تهدف إلى ضبط الأوضاع ضمن إطار يحترم السيادة اللبنانية من جهة، ويراعي الخصوصية الفلسطينية من جهة أخرى.

ويرى المصدر أنّ التزام الجانب الفلسطيني بعدم استخدام الأراضي اللبنانية منصة لأي عمليات عسكرية يشكّل تطورًا لافتًا، ينسجم مع سياسة النأي بالنفس التي يكرر لبنان التمسك بها. فهذا الموقف لا يسهم فقط في تحييد لبنان عن تداعيات الصراعات الإقليمية، بل يعكس أيضًا حرصًا فلسطينيًا على حماية وجوده في لبنان من مخاطر التورط في أجندات سياسية أو عسكرية تخدم أطرافًا خارجية.

ومع ذلك، تُطرح تساؤلات مشروعة عدة حول الآلية التنفيذية التي ستترجم بها هذه المواقف، خصوصًا في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي، واحتمال أن تسعى أطراف مثل “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” إلى التشويش على مُخرجات هذه الزيارة، لأسبابٍ تتصل بعلاقاتها الإقليمية ودورها ضمن المعادلات اللبنانية.

تلاقي المصالح الإقليمية والدولية

من الواضح أنّ بيان بعبدا لم يكن محصورًا بالبُعد الثنائي، بل عكس أيضًا التقاء المصلحة اللبنانية – الفلسطينية مع الموقف العربي والدولي الداعم لاستقرار لبنان، والرافض لأي سلاح خارج الدولة.

وقد شدّد الجانبان، بحسب ما نقلت “الجمهورية”، على أهمية تعزيز التعاون الأمني لمنع تحوّل المخيمات إلى ملاذات لجماعات خارجة عن القانون، مؤكدَيْن ضرورة احترام سياسة النأي بالنفس والامتناع عن التدخل في شؤون الدول الأخرى.

هذا الموقف يحمل دلالة في توقيته، إذ تزامن مع استمرار التوتر جنوب لبنان، وعمليات إطلاق الصواريخ التي سارعت السلطات اللبنانية إلى تطويقها بالتعاون مع فصائل فلسطينية، حيث تمّ تسليم عدد من المتهمين في عمليات الإطلاق الأخيرة.

هل تبدأ مرحلة ما بعد السلاح؟

لا شكّ أن المواقف التي أُطلقت خلال زيارة عباس تمثّل إعلان نوايا جريئًا، بل وربما يكون تاريخيًا. غير أن السؤال البديهي الذي طرحته الصحف المحلية يدور حول “المرحلة التالية”: هل نمتلك الأدوات والآليات الكفيلة بترجمة هذه المواقف إلى خطوات تنفيذية حقيقية؟ وما هو مصير المخيمات، والسلاح، والتنظيمات غير المنضوية تحت سلطة منظمة التحرير؟

حتى اللحظة، لا يبدو أن هذه الأسئلة تحظى بإجاباتٍ واضحة، إلا أن المؤكد هو أن الزيارة وضعت هذه القضايا في واجهة النقاش السياسي، وقد تكون شرارةً لمرحلة جديدة، إن توافرت الإرادة السياسية الداخلية والدعم الإقليمي.

تطمينات وتعهدات ومواقف جريئة

في ختام زيارته، عبّر عباس عن شكره للبنان، مؤكدًا أن الشعب الفلسطيني لن ينسى ضيافة هذا البلد على الرغم من كل الظروف القاسية. وأعاد التأكيد على أن الفلسطينيين في لبنان ضيوف، لا يحملون نية التسليح أو التوطين.

لقد اختُتمت الزيارة برسائل واضحة: السلاح خارج المخيمات، السيادة فوق كل اعتبار، وحق العودة غير قابل للتنازل. لكن الأهم يبقى في قدرة الدولة اللبنانية على البناء على هذا الموقف، وتحويله إلى استراتيجية وطنية مدعومة عربيًا ودوليًا، لتثبيت الاستقرار، وإنهاء كل أشكال الفوضى والسلاح غير الشرعي.

هل تتحوّل زيارة عباس إلى مفصل؟

بدا واضحًا أن زيارة عباس إلى لبنان لم تكن زيارة عابرة. هي زيارة مفصلية في توقيتها، ومضامينها، وما أُعلن فيها من مواقف قد تكون اللبنة الأولى في إعادة تنظيم العلاقة اللبنانية – الفلسطينية على أساس جديد.

تبقى العبرة في التنفيذ، وفي التزام جميع الأطراف اللبنانية والفلسطينية بما تمّ التفاهم عليه، خصوصًا في ظل التحديات الأمنية والإقليمية التي تتطلب وضوحًا في الخيارات، وحسمًا في التوجهات.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us