سوريا تتصدع.. والرمال تكاد تبتلع لبنان

ترجمة “هنا لبنان”
كتب سلام الزعتري لـ“This is Beirut“:
لا يكمن تفسير درجة التعقيد في الشرق الأوسط في الخرائط والأوراق بل في خطوط الصدع.. فواقع هذه المنطقة في العام 2025 مطبوع بانقسامات عميقة وتصدعات مجتمعية تتغذى على الخوف وعلى ماض مثقل وعلى الشعور بأنّ البلدان لا تختبر مجرد تحول عادي بل تخضع لإعادة تقسيم جذرية.
لقد دق ناقوس الخطر بفعل التحذير الذي أطلقه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو هذا الأسبوع، والذي حرك موجات مدوية بلغت أصداؤها وزارات الخارجية من بيروت إلى برلين. فقد صرّح روبيو بأنّ الحكومة الانتقالية في سوريا، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي وصل إلى السلطة بعد سقوط نظام الأسد، على بعد “أسابيع” وليس شهور أو فصول من الإنهيار. تهويل مدوّ ربما يندرج كما هو شائع في واشنطن، في إطار الضغط باتجاه دفع الكونغرس للتحرك من خلال تضخيم حجم المشكلة أولًا.
خطورة كلمات روبيو لا تقتصر على سوريا وحدها بل تتعداها لتشمل أي تداعيات محتملة لانهيار سوريا على المنطقة ككل: مثلا، سيناريو حرب أهلية نهايتها أبعد ما يكون عن الانتصار أو الهزيمة..لصالح شيء أكثر تعقيدًا وربما أكثر ديمومة، كالفيدرالية والانقسام والتقسيم الرسمي لسوريا إلى كانتونات طائفية.
وهنا لا بد من طرح سؤال جوهري: هل هذا الانقسام خلل عرضي أم هو غاية متعمدة؟
لا يخفى على أحد في هذا السياق أن الرئيس دونالد ترامب، قام في خطوة نادرة تنم عن ضبط النفس على الساحة الدولية، برفع العقوبات مؤقتًا عن سوريا لمدة 180 يومًا. خطوة تكتيكية تهدف إلى دعم الحكومة الانتقالية ومنح هامش للحركة أمام الفاعلين المحليين والإشارة لعدم استعداد واشنطن لتكرار سيناريو انهيار دمشق. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن توقيت تحذير روبيو ليس عشوائيًا البتة. ورسالته لا تستهدف سوريا فقط، بل لبنان ضمنا.
وفي المنطقة، تتبنى الولايات المتحدة سياسة مزدوجة: العصا والجزرة مع سوريا، والبرود والتجاهل مع لبنان. وهذه السياسة ليست عشوائية حيث أن واشنطن تحاول ملء الفراغ الذي خلفه سقوط نظام الأسد من خلال دعم “قوة انتقالية معتدلة” في دمشق، بالتوازي مع تحذير النخب السياسية في بيروت بشكل غير مباشر من نفاد الصبر والدعم الدوليين.
هذا النمط من الدبلوماسية الغربية قد يبدو مألوفاً في المنطقة، لكنه يمثل في الحقيقة تحولًا سلسا في الاستراتيجية يخدم بشكل مبطن عقيدة إقليمية غير معلنة: “خطة إسرائيل على المدى الطويل”.
دعونا لا نخدع أنفسنا.. إسرائيل لا تريد سوريا موحدة وقوية ومسلحة. فسوريا المقسّمة إلى كيانات كردية وعلوية ودرزية وسنية (دون أي كيان قادر على تهديد الجولان) تمثل منطقة عازلة بحكم الواقع. وبالتالي، تستحيل سوريا تهديداً مُحتملاً تحت سيطرة شبكة من الشك المتبادل والنفوذ الأجنبي.
والمثير في ما يحصل أن السياسة الأميركية تتجه فعلياً بقصد أو بغير قصد نحو هذا السيناريو.
إن دعم حكومة انتقالية غير قادرة على بسط سيادتها على كامل الأراضي السورية لا يمنع التقسيم، بل يسرع من وتيرته. ورفع العقوبات لا يعني دعم الوحدة بل تأجيل المصير. فما هي النتيجة المحتملة؟ “اتفاق دايتون” سوري: بلد واحد، مناطق طائفية متعددة، لا هيمنة لأحد على الإطلاق. وبالنسبة لإسرائيل، هذا السيناريو ليس مرغوباً فحسب بل هو مثالي.
والآن، بالعودة إلى لبنان..
الساعة تدق والهامش الزمني يضيق بالنسبة للحكومة اللبنانية. لا شك بأن هذه الأخيرة لا تزال تحظى باهتمام أميركي، لكنه مشروط. وإن لم يبادر لبنان إلى الإصلاح وإرساء الاستقرار والتخلص من أعباء الوكلاء الإقليميين، يخاطر بالخروج من دائرة الأولوية الأميركية للغرق في خانة “اللااستقرار القابل للإدارة”.. عبارة دبلوماسية تختصر وضع الانتظار على أمل أن يلتفت إلينا أحد حين تقتضي الحاجة.
المأساة في كل ما يحصل؟ أن لبنان لم ينهَر بعد خلافاً لسوريا.. فهو لا يزال يمتلك مؤسسات ومجتمعاً مدنياً ومكانة جيوسياسية. ومع ذلك، تصر قياداته في عصر الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي على ممارسة لعبة شطرنج بقواعد تعود إلى الثمانينات. وبينما يعاد ترسيم سوريا، مجازياً إن لم يكن قانونياً، يبقى لبنان غارقاً في مستنقع السجالات حول الحصص الوزارية وصيغ تقاسم السلطة.
وهنا تكمن الثغرة الاستراتيجية بالفعل: في حال تفككت سوريا إلى دويلات طائفية قابلة للإدارة، ستتحول وحدة لبنان الجغرافية والديموغرافية من نقطة قوة إلى عبء. فلبنان القوي المجاور لسوريا الضعيفة كان في الماضي مرادفا للنفوذ الاستراتيجي. أما لبنان المفكك بجوار سوريا مفككة فهو الوصفة الأمثل للانفجار لا للتماسك.
فما المطلوب من الرئيس جوزاف عون في ما يتعلق بحزب الله؟ الأمر لا يقتصر على الدعوة لنزع السلاح بل يتعداه ليشمل التوقيت والضغط وإعادة صياغة المسألة برمتها. وعلى الرغم من أن الحوار المباشر مع الحزب قد يعكس وحدة وطنية، أثبت التاريخ أنه نادراً ما يحقق نتائج ملموسة. ولذلك، لا بد من تغيير محور النقاش: لا ينبغي أن يتمحور حول نزع السلاح فوراً، بل حول استعادة الدولة لسلطتها الحصرية في اتخاذ قرارات الحرب والسلام. فهذه مسألة سيادة، لا طائفية. وفي الوقت عينه، عليه أن يستثمر التقاطع بين الدعم الأميركي والاهتمام الأوروبي، وهشاشة حزب الله الإقليمية، نتيجة ضعف سوريا وتراجع قدرة إيران. الآن هو الوقت المناسب لطرح استراتيجية دفاع وطني موثوقة، مدعومة بضمانات دولية تدمج الدور العسكري للحزب تدريجياً ضمن هيكل الدولة أو تفضح رفضه لذلك. والأهم من ذلك، على الرئيس عون إعادة بناء قوة الدولة نفسها: تعزيز الجيش وتأمين استقلالية القضاء وتوجيه المساعدات الدولية نحو إصلاحات مؤسساتية فعلية. لأن الطريقة الوحيدة لنزع سلاح ميليشيا ذات هالة أسطورية غير منوطة بالضغط بل بتمكين الدولة لدرجة تتلاشى معها أي حجة للأساطير.
وأخيراً، لا بد لنا ألا ننسى أن الدعم الأميركي الحالي ليس شيكاً على بياض.. هذا الدعم أقرب لجسر والجسور تنهار إن قوبلت بالإهمال..
وفي اللحظة التي تبدأ فيها المنطقة برسم خطوط المستقبل، ستبتلع الرمال المتحركة كل تلك التي لا تسارع للتحرك بالوتيرة نفسها!