انتخابات الجنوب بلا منافسة: ديمقراطية التزكية تحت سطوة “الثنائي الشيعي”


خاص 25 أيار, 2025

المجالس البلدية التي وصلت إلى السلطة، سواء عبر الانتخابات أو التزكية، تقع على عاتقها مسؤوليّات جسيمة في مرحلة ما بعد الحرب، وعلى رأسها الإعمار وتلبية حاجات المواطنين. لكن ما جرى في مدنٍ مثل صيدا والنبطية وبلدات أخرى شهدت منافسةً فعليةً، يعدّ مؤشرًا مهمًّا يجب مراقبته، لما قد يعكسه من تغيّر في المزاج الشعبي، وربّما يكون تمهيدًا لتحوّلات أكبر في الانتخابات النيابية المقبلة.

كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:

في مشهدٍ انتخابيّ مشوب بالحذر والمراقبة، خاض الجنوب اللبناني استحقاقه البلدي لعام 2025 وسط ظروفٍ استثنائيةٍ فرضتها التوتّرات الأمنية من جهة، وضغوطٍ سياسيةٍ داخليةٍ متراكمةٍ من جهة أخرى. لم تكن صناديق الاقتراع هذه المرّة مجردّ محطة ديموقراطية محلية، بل تحوّلت إلى اختبارٍ حقيقيّ لمدى قدرة “الثنائي الشيعي” (حزب الله وحركة أمل) على الاحتفاظ بسيطرته المطلقة على المجالس البلدية، في ظلّ مؤشرات متزايدة إلى تراجع شعبيته وصعود بدائل مدنيّة بدأت تشق طريقها في قلب المعاقل التقليدية.

تزكية تحت الضغط: ديموقراطية مقنّعة
اعتمد “الثنائي الشيعي” في عددٍ كبيرٍ من قرى الجنوب سياسة “التزكية”، حيث تمّ التوافق على تشكيل لوائح موحّدة من دون خوض منافسة فعليّة. هذا الخيار، وإنْ تم تقديمه كإجراءٍ لتقليل التوتّر وضبط النفقات، إلّا أنّه كشف بوضوح عن رغبةٍ واضحةٍ في تحييد المنافسة، وإقصاء أي محاولات لتحدّي نفوذ القوى المسيطرة على القرار المحلي منذ عقود.

التزكية هنا لم تكن خيارًا طبيعيًا نابعًا من إجماعٍ شعبيّ، بل جاءت نتيجة ضغوط مباشرة مورست على المرشحين المستقلين أو المناوئين، لإجبارهم على الانسحاب، وذلك بهدف ضمان الهيمنة السياسية واستثمار البلديات كأدواتٍ لتقديم الخدمات الموجهة لجمهور الحزب، في ظلّ شحّ الموارد وغياب الدعم الخارجي، وتعثّر ملف إعادة الإعمار في القرى الجنوبية المتضرّرة.

في المقابل، برزت خلال هذا الاستحقاق تحالفات محلية جديدة في نحو 12 بلدية شيعية، ضمّت ناشطين مدنيين، وأكاديميين، ورجال أعمال، طرحوا أنفسهم كبديلٍ حقيقيّ عن الأداء المتردّي للبلديات السابقة. هذه القوى اعتمدت خطابًا إصلاحيًا وخدماتيًا بعيدًا عن الاصطفافات الإيديولوجية، وهو ما يؤشّر إلى تحوّل تدريجي في المزاج الشعبي، ولو بشكلٍ محدودٍ.

نسب الاقتراع: بين التحدّي والصمود
في قراءةٍ دقيقةٍ لخريطة الاقتراع في الجنوب، برز تفاوت واضح في نسب المشاركة بين أقضية محافظتَيْ النبطية ولبنان الجنوبي، ممّا عكس مشهدًا انتخابيًا غير متجانس، تتداخل فيه العوامل السياسية بالمزاج الشعبي.
ففي محافظة النبطية، سجّلت نسب الاقتراع 36.48 بالمئة، ما يعكس تراجعًا نسبيًا مقارنةً بالدورات الانتخابية السابقة، في حين بدت المشاركة أفضل في محافظة لبنان الجنوبي حيث بلغت النسبة 42.78 بالمئة.
وعلى صعيد الأقضية، أظهرت مدينة النبطية أعلى نسبة مشاركة ضمن نطاقها، حيث تخطّت 45 بالمئة بقليل، بينما قاربت صيدا النسبة نفسها، ما يدل على حيويةٍ انتخابيةٍ ملحوظةٍ في هذين القضاءين. جزين بدورِها برزت من حيث الإقبال، إذ اقتربت نسبة المشاركة فيها من 43 بالمئة، مدفوعةً على ما يبدو بحماسة المنافسة.
في المقابل، جاءت النّسب أقلّ في بعض الأقضية الأخرى. فقد سجّلت حاصبيا نسبةً تقارب 37 بالمئة، بينما بقيت مرجعيون دون هذا المستوى بنحو خمس نقاط مئوية. أمّا أدنى نسبة فقد سُجلت في بنت جبيل، حيث لم تتجاوز الثلاثين بالمئة، ما يعكس برودةً انتخابيةً لافتةً. كذلك، بلغت نسبة الاقتراع في صور نحو 40 بالمئة، وهي نسبة معتدلة بالنسبة إلى ثقلها الانتخابي المعروف.

هذا التفاوت في نسب المشاركة يعكس التباينات السياسية والمزاج الشعبي بين المناطق، وسط الحديث عن تسويات ومقاطعة جزئية أثرت في الحماسة العامّة للعملية الانتخابية.
لكنّ القراءة الميدانية لهذا الإقبال تكشف وجهًا آخر: فالارتفاع النسبي في بعض المناطق رافقه إحباط واسع النطاق في أخرى، بسبب غياب المنافسة، وشعور الناخبين بأنّ أصواتهم لن تغيّر شيئًا في ظلّ التسويات المسبقة. وقد عبّر الكثير من المرشحين المنسحبين عن استيائهم من تدخلٍ مباشرٍ قام به رئيس مجلس النواب نبيه بري لمنع إجراء معارك انتخابية حقيقية، حفاظًا على “الهيبة السياسية” للثنائي، وِفق تعبيراتهم.
وفي حديثٍ للمحلّل الانتخابي حسان القطب، اعتبر أنّ إجراء الانتخابات البلدية في الجنوب شكّل بحدّ ذاته تحديًا كبيرًا في ظلّ الأوضاع الأمنية المتدهورة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية اليومية والاغتيالات المستمرّة، إضافةً إلى الدمار الواسع وعرقلة عملية إعادة الإعمار في القرى الجنوبية.
وأشار القطب إلى أنّ الدولة واجهت صعوباتٍ جمةً في تنظيم هذه الانتخابات، في ظلّ واقع أمني هشّ ومعيشي ضاغط، إلّا أنّ “الثنائي الشيعي” أي حزب الله وحركة أمل عملا على تجاوز هذا التحدّي من خلال اعتماد سياسة التزكية في معظم البلدات والقرى، حيث جرت تسويات داخلية أدّت إلى انسحاب مرشحين مستقلّين أو تابعين لقوى سياسية أخرى، في إطار سعي الثنائي لفرض سيطرته على البلديات وتخفيف الكلفة المالية والاستفادة من الهيئات المحلية لأغراض سياسية وخدماتية.
ولفت القطب إلى أن “البلديات تمثل اليوم رافعةً أساسيةً لأي عملية إعادة إعمار مستقبلية، ما يعزّز رغبة الثنائي في الإمساك بها، خصوصًا في ظلّ التراجع الكبير في قدرته على الحصول على دعمٍ خارجيّ، وتأخر عملية إعادة البناء، مقابل تزايد الحاجات الشعبية والضغوط المعيشية. كما أنّ الكثير من الأبنية التي تحتاج إلى ترميم أو إعادة بناء قد أُنشئت بطريقةٍ مخالفةٍ، أو على أملاك عامّة، ما يجعل من البلديات، الواقعة تحت نفوذ الثنائي، أدوات فعالة في تنظيم تلك العمليات”.
وأكد القطب أنّ “هذا النهج يحمل في طيّاته رسائل مزدوجة، الأولى للداخل، للتأكيد أن الثنائي لا يزال متماسكًا في بيئته على الرغم من الخسائر البشرية والمادية الكبيرة، والرسالة الثانية للخارج، مفادها بأن لا استقرار في الجنوب ولا إمكانيّة للتفاوض بشأن السلم الأهلي إلّا من خلاله”.

ورأى القطب أنّ “نسب الاقتراع وإن كانت أدنى من انتخابات 2016، تبقى مقبولةً في ظلّ الوضع الأمني والضغوط التي مورست على الأرض، مشدّدًا على أنّ غياب المنافسة في الكثير من القرى نتيجة الضغوط السياسية أضعف العملية الديموقراطية، وحوّل الانتخابات إلى عملية تزكية أقرب إلى التعيين”.
كما توقّف القطب “عند الدور الذي لعبه رئيس مجلس النواب نبيه بري، بوصفه رئيسًا للسلطة التشريعية، والذي تدخّل بشكلٍ مباشرٍ لدفع مرشحين إلى الانسحاب لصالح آخرين، ما يعد انتهاكًا لمبدأ الانتخابات الحرّة والنزيهة”.
وأشار إلى أنّ “هذا التدخل لم يكن سرّيًا بل جرى الحديث عنه علنًا في العديد من القرى، وهو ما يكشف عن رغبة السلطة في إبقاء الهيمنة السياسية قائمةً، مهما كان الثمن”.
وأضاف القطب أنّ “مراجع دينيةً أيضًا دخلت على خط الضّغط، من خلال بياناتٍ متكررةٍ دعت إلى التزكية وتجنّب المواجهات الانتخابية، بهدف ترسيخ صورة أنّ البيئة الشيعية موحّدة بالكامل خلف الثنائي، ولا وجود لأي صوت معارض داخلها”.

ورأى القطب أن “ما جرى في هذه الانتخابات يشير بوضوح إلى أن الثنائي يشعر بالضعف، ويعمل على استخدام كلّ ما يملك من أدوات السلطة من البرلمان إلى البلديات – لتأكيد حضوره السياسي. وهذا يختلف عمّا حصل بعد حرب تموز 2006، حين كان يتمتّع بإمكانات مالية وإدارية مكّنته من قيادة عملية إعادة الإعمار بنجاح، على عكس المشهد الحالي”.
ورأى القطب أنّ “المجالس البلدية التي وصلت إلى السلطة، سواء عبر الانتخابات أو التزكية، تقع على عاتقها مسؤوليّات جسيمة في مرحلة ما بعد الحرب، وعلى رأسها الإعمار وتلبية حاجات المواطنين”.
ولفت إلى أن “ما جرى في مدنٍ مثل صيدا والنبطية وبلدات أخرى شهدت منافسةً فعليةً، يعدّ مؤشرًا مهمًّا يجب مراقبته، لما قد يعكسه من تغيّر في المزاج الشعبي، وربّما يكون تمهيدًا لتحوّلات أكبر في الانتخابات النيابية المقبلة، خصوصًا في ظلّ احتدام المنافسة في مناطق مثل جزين بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية”.

وختم القطب حديثه: “الانتخابات البلدية كانت بمثابة اختبار سياسي وأمني وشعبي، وستكون نتائجها انعكاسًا مباشرًا على ما سيشهده لبنان في الاستحقاقات المقبلة”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us