مياه الضاحية والشياح تتدفق.. والمتن يئن تحت وطأة العطش


خاص 5 حزيران, 2025

نقص المياه وانحباس الأمطار أمر معروف للجميع، لكن، أين خطط الطوارئ؟ وأين البدائل الاستراتيجية؟ وأين العدالة في توزيع المياه؟ ولماذا تُترك مناطق بأكملها تعاني من العطش، في حين تُروى مناطق أخرى بلا توقف؟

كتبت كارين القسيس لـ”هنا لبنان”:

في بلدٍ تحكمه المحاصصات وتُسيَّر فيه المؤسسات بالمحاباة لا بالسياسات، لم يعد مستغرباً أن يتحوّل أهالي المتن الشمالي إلى متسوّلين على أبواب مؤسسة مياه بيروت. فهم يدفعون اشتراكاتهم السنوية بانتظام، تماماً كما يفعل المواطنون في الشياح أو الضاحية الجنوبيّة، لكنّهم لا ينالون سوى وعود جوفاء، وأحياناً قطرات ماء بالكاد تروي العطش.

بلدات مثل المنصوريّة والسبتيّة تعاني منذ سنوات طويلة من انقطاع المياه، وليس فقط هذا الصيف إنّما على مدار السنة. وكأنّ المشكلة وراثيّة، تنتقل من عام إلى آخر، ومن مسؤول إلى آخر، من دون أي محاولة جادة لمعالجتها. في المقابل، يُجبر المواطنون على شراء المياه عبر الصهاريج بأسعار باهظة، ويتحملون كلفة مضاعفة مقابل حاجة يُفترض أن تكون حقاً أساسياً تكفله الدولة.

المفارقة أنّ مناطق مثل الشياح، وفرن الشباك، والضاحية الجنوبية لا تعاني من الانقطاع، لا في عزّ الصيف ولا في ذروة الجفاف. وهنا يطرح السؤال نفسه، هل أزمة المياه تختار ضحاياها؟ أم أنّ توزيعها خاضع لحسابات سياسيّة وزبائنيّة مكشوفة؟

منصّة “هنا لبنان” لم تقف مكتوفة الأيدي، فاستوضحت من جان جبران، المسؤول في مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، الذي كشف عن تقنين قاسٍ مرتقب بسبب جفاف الينابيع وشحّ الآبار، مشيراً إلى أنّ المؤسسة اضطرت لإعادة تشغيل آبار قديمة بتكاليف مرتفعة، إلى جانب جهود لوقف سرقة المياه التي تحرم المواطنين “الشرعيين” من حقوقهم.

ويلفت إلى أنّ ساعات تشغيل الآبار تراجعت من 8 إلى 4 أو 5 ساعات يومياً، رغم توفّر كميات كبيرة من المازوت لتشغيل المضخات. وألقى جبران باللوم على انحباس الأمطار والثلوج، مشيراً إلى أنّ شهر كانون الثاني الماضي لم يشهد نقطة مطر واحدة، في سابقة تاريخية تؤكّد حراجة الوضع المائي.

لكن، ماذا عن الأعوام السابقة؟ ولماذا تستمر الأزمة وتتكرر؟ وإن كانت سرقة المياه بهذه الضخامة، فأين كانت المؤسسة طوال هذه الفترة؟ ولماذا تُترك مناطق بكاملها بلا نقطة ماء، بينما لا تمسّ أخرى بأي نقص يُذكر؟

الأهالي يحمّلون جبران المسؤولية بشكل مباشر، ويرون أنّه إمّا يجامل جهات معينة أو يخضع لضغوط سياسية تُفضّل مناطق على حساب أخرى. ويعبّرون عن غضبهم من غياب الشفافية وعدم وجود جدول زمني واضح للحل، حيثُ يقول أحد السكان: “لا إنذار، ولا مهلة، ولا حتى تصريح يُطمئننا بأنّ المياه ستعود خلال أسبوع أو أكثر”.

ردًا على ذلك، يُشدّد جبران على أنّ الحل ليس بيده وحده، وأنهم يعملون بجد ضمن الإمكانيات، داعياً المواطنين إلى الترشيد. ويوضح أنّ المياه المتوفرة في المصدر أقل بكثير من السابق، وأنّ المؤسسة تبذل جهدها للتخفيف من الأزمة قدر الإمكان.

لكن الحقائق المناخية ونداءات الترشيد لا تبرّر التمييز الفاضح في التوزيع. رئيس بلدية المنصورية السابق، وليام خوري، أشار في حلقة تلفزيونيّة إلى أنّ الحل يكمن في إنشاء خزّان أكبر للمنطقة التي شهدت اكتظاظاً سكانياً ضخماً. إلا أنّ ما أخفاه خوري كشفه أحد السكان وهو أنّ جذور الأزمة تعود إلى عهد الرئيس السابق إميل لحود، حين حُوّلت مياه الديشونية إلى الضاحية وفرن الشباك، ما تسبّب في حرمان المنصورية من حصّتها.

فأي عدالة، وأي منطق، وأي دولة تسمح بتحويل مياه بلدة كاملة إلى بلدة أخرى بقرار سياسي لا توازنه لا أخلاق ولا قانون؟

وعن أزمة المنصورية، يُقر جبران بأنّها مزمنة، وعزاها إلى محدودية المصادر، مؤكداً أن الخزّان الحالي لم يعد كافياً. ويعتبر أنّ الحلّ للمنصورية يكمن في البت بمشروع “جر مياه الأوليّ”، الجاري تنفيذه بالتعاون مع البنك الدولي، والمتوقع إنجازه خلال سنة.

واختتم جبران حديثه بنداء لتهدئة النفوس وترشيد الاستهلاك، مشدداً على أنّ “المياه اليوم ليست متوفرة في المصدر”، وأن الأزمة أشد من العام الماضي.

لكن السؤال الجوهري يبقى، لماذا لا تملك مؤسسة مياه بيروت خطة بديلة وطارئة لبلدة المنصورية، سوى انتظار مشروع قد لا يُنجز قبل عام؟

كفى أعذاراً وتبريرات، وكفى دفناً للرؤوس في الرمال. المواطن لا يجب أن يتحمل تبعات فشل الدولة، ولا أن يصبح رهينة لمؤسسات عاجزة تكتفي بإلقاء اللوم على الظروف الجوية، من دون تقديم خطط أو استراتيجيات واضحة ومحددة.

نقص المياه وانحباس الأمطار أمر معروف للجميع، لكن، أين خطط الطوارئ؟ وأين البدائل الاستراتيجية؟ وأين العدالة في توزيع المياه؟ ولماذا تُترك مناطق بأكملها تعاني من العطش، في حين تُروى مناطق أخرى بلا توقف؟

المؤسسات لا تُقاس بعدد التصريحات الإعلاميّة، بل بمدى قدرتها على حماية حقوق المواطنين. والحق في المياه ليس ترفاً، بل ضرورة حياة. ومن المؤسف أن يُطالب المواطنون فقط بالترشيد، في حين أنّ المؤسسة المعنية لا تقدم حلولاً حقيقيّة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us