التكاذب السياسي… وصفة رخيصة للإجهاز على ما تبقّى من مشروع الدولة


خاص 16 حزيران, 2025

الرهان على الحلول الطائفية في لحظة إعادة رسم توازنات المنطقة، ليس سوى تأجيج لاستمرار التكاذب السياسي، وتكرار لوصفة تفخيخ ما تبقّى من مشروع قيام الدولة الوطنية. وكل خطاب لا يصبّ في اتجاه بناء دولة، إنما يعيد إنتاج مسلسل الدجل الذي قاد البلاد إلى قعر الكارثة، ويعيد تقديمه اليوم بأقنعة جديدة.


كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:

لا حاجة إلى حرب كبرى أو أزمة إقليمية حتى تنكشف عورات الخطاب السياسي اللبناني. فالدجل والتكاذب لا يرتبطان بظروف طارئة، بل يشكّلان نهجاً راسخاً في بنية النظام، يسبق الأزمات ويتغذّى منها. الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم ليست بنت لحظتها، ولا نتيجة مباشرة لضربة إسرائيلية ضد إيران أو لتصعيد على جبهة الجنوب، بل هي حصيلة تراكم طويل من الخطابات الطائفية والاستثمار الممنهج في العصبيات والانتماءات، من قِبل طغمة حاكمة لا تبحث عن خلاص لبنان، بل عن تمديد صلاحية نفوذها بأي ثمن.

ما يزيد المشهد قتامة هو هذا التوصيف المضلّل والمقصود، الذي يُروَّج للأزمة اللبنانية بوصفها أزمة طائفية، بل “شيعية”. وهو توصيف لا يفتقر فقط إلى الدقة، بل يشكّل محاولة مكشوفة لتحوير النقاش عن جوهر المعضلة: سلاح خارج شرعية الدولة، تمسك به منظومة عقائدية تشكّل امتداداً مباشراً ورخيصاً للمشروع الإيراني.
هذا الخلل لا يُعالَج بإعادة إنتاج خطاب المظلومية وتسويقه أو عبر رفع نبرة الاستقواء. فالمعادلة الوطنية لا تُبنى على هذا الأساس، ولا أحد يملك أحقية محاكمة طائفة، كما لا يحق لأحد الادعاء باكتشاف مزايا مكوّناتها أو إثبات انتمائها. والأخطر من تزييف الحقائق هو تسخيف النقاش عبر بدائل قائمة على استرضاء الطوائف أو شيطنتها، كما لو أن الانتماء الطائفي يحتاج إلى مصادقة سياسية أو إعلامية. هذه المقاربة السطحية والخطيرة تفتح الباب أمام حلول طائفية هجينة، ومشاريع فدرالية وتقسيمية لم تعد مجرد هواجس، بل باتت تُطرح علناً.

وما يُفترض أن يُقال اليوم، بوضوح، إن الشيعة ليسوا رهائن لحزب الله، ولا المسيحيون أوصياء على الميثاق، ولا السنّة والدروز خارج لعبة المحاصصة الطائفية. الجميع شريك في الانهيار، والجميع معنيّ بالحل. والحل لا يمرّ عبر تعويم “حقوق الطوائف”، بل عبر قيام دولة واحدة، بهويّة وطنية جامعة، تعيد الاعتبار للمواطنة، للشرعية، ولمؤسسات الدولة.

أما التمسك بالسلاح خارج إطار الدولة، تحت شعار “المقاومة”، ولو لأهداف خطابية ترضي جمهوراً مضلَّلاً أو تخفّف من وقع النكسة، فلم يعد وسيلة لحماية لبنان أو الشيعة، بل تحوّل إلى أداة ابتزاز سياسي. سلاح يرتدّ على بيئته قبل سواها، ويدفع بلبنان إلى مزيد من العزلة والانهيار. وأي خطاب يجمّله أو يبرّره ويتغاضى عنه إنما يشارك في جريمة إدامة المأساة.

المفارقة أن الترويج للأزمة اليوم بوصفها “شيعية”، هو نفسه كالترويج لخطابات “الميثاقية” و”حقوق الطوائف” و”الوفاق الوطني” لعقود. إنه دجل سياسي مستمر، يبدّل أقنعته لكنه لا يغيّر حقيقته. المطلوب ليس في إدانة طائفة، بل في كسر منظومة التسويات الفاسدة والثنائيات الطائفية التي حوّلت الدولة إلى كيان عاجز تتنازعه الولاءات الخارجية والمصالح الضيّقة.
لقد آن أوان كسر لعبة التصنيفات والانتماءات المشروطة، وإسقاط كل الخطابات التي تحول الطوائف إلى أدوات أو رهائن. اللبنانيون، شيعة وغيرهم، لا يحتاجون إلى شهادات ولاء. حقوقهم تُصان بدولة لا بدويلات، بدستور لا مواثيق مساكنة طائفية، بعدالة لا تسويات مفصّلة على مقاس العواصف الخارجية.

الرهان على الحلول الطائفية في لحظة إعادة رسم توازنات المنطقة، ليس سوى تأجيج لاستمرار التكاذب السياسي، وتكرار لوصفة تفخيخ ما تبقّى من مشروع قيام الدولة الوطنية. وكل خطاب لا يصبّ في اتجاه بناء دولة، إنما يعيد إنتاج مسلسل الدجل الذي قاد البلاد إلى قعر الكارثة، ويعيد تقديمه اليوم بأقنعة جديدة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us