لبنان على رأس الدول الأكثر تلوّثًا: انهيار بيئي وصحي في ظل فسادٍ مُزمن

أي خطوة إصلاحية لن تنجح ما لم تقترن بمكافحة فعلية للفساد، خاصة داخل الإدارات البيئية والصحية، لأن الفساد هو العائق الأكبر أمام أي تغيير حقيقي، لأنه يسمح باستمرار الكارثة تحت غطاء الصمت والتواطؤ.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في الوقت الذي تكافح فيه دول العالم للحدّ من التغيّر المناخي والتلوث البيئي، يجد لبنان نفسه على رأس قائمة أكثر الدول تلوثًا في المنطقة العربية لعام 2025. تصنيف لا يحمل شرف الصدارة، بل يجسّد مأساةً بيئيةً مركّبةً تتجاوز تداعياتها حدود الطبيعة لتطال صحّة الإنسان ونوعية حياته اليومية.
كشف تقرير دولي حديث عن ارتفاع نسب التلوث في معظم أنحاء العالم، خاصةً في الدول الصناعية والنامية التي تعاني من ضعف سياسات الحماية البيئية. وقد نشر موقع “Numbeo” ترتيبًا جديدًا للدول الأكثر تلوّثًا، بيّن أنّ قارة آسيا تحتضن الغالبية العظمى من هذه الدول، مع تصدّر منغوليا اللائحة، تلتها ميانمار وأفغانستان، ثم بنغلاديش.
إلّا أنّ المفاجأة الأكبر كانت حلول لبنان في المرتبة الخامسة عالميًا من حيث نسبة التلوّث، بمعدل بلغ نحو 87.39%، متقدّمًا على دول كبرى مثل نيجيريا، مِصر، والصين، على الرَّغم من أن هذه الدول تضم كثافةً سكانيةً وتمدّنًا صناعيًا أكبر بكثير.
عربيًا، تصدّر لبنان القائمة متفوّقًا على مِصر (المرتبة 8 عالميًا)، الأردن (15)، العراق (18)، الكويت (28)، والسعودية (37). أمّا على الطرف الآخر من اللائحة، فقد سجلت فنلندا أقلّ نسبة تلوّث في العالم، تلتها أيسلندا، إستونيا، والسويد.
لكن خلف هذا الرقم الصادم، تقبع أزمة أعمق بكثير من مجرّد تصنيف رقمي، إنّها أزمة بيئيّة واجتماعية متشابكة تهدّد حياة اللبنانيين يومًا بعد آخر. فبلد الأرز، الذي كان يُعرف بطبيعته الخلابة وتنوّعه البيئي، بات اليوم عنوانًا لتلوّث شامل في الهواء والماء والتربة. المواطن اللبناني، الذي يرزح أصلًا تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يجد نفسَه في مواجهةٍ يوميةٍ مع بيئةٍ ملوّثةٍ تقوّض صحته وتهدّد معيشته.
الخبير البيئي بول أبي راشد يقول لـ”هنا لبنان” إنّ “تصدّر لبنان لقائمة الدول الأكثر تلوّثًا في العالم لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة حتمية لتراكماتٍ طويلةٍ من سوء الإدارة، والفساد المستشري، والحروب المتعاقبة التي أنهكت البنى التحتية، وغيّبت أي رؤية بيئية مُستدامة”.
ويوضح أبي راشد أنّ “ما يشهده لبنان اليوم من تلوّثٍ في الهواء والماء والتربة، هو انعكاس مباشر لتضارب المصالح وغياب الرقابة والمحاسبة، مشيرًا إلى أن الانهيار البيئي الذي يعصف بالبلاد يرتكز إلى ثلاثة أسباب رئيسية مترابطة”.
أولها، ما وصفه بـ”مافيا الفساد”، التي لم تعد مجرّد تجاوزات فردية، بل تحوّلت إلى شبكة نفوذٍ منظمةٍ تتحكّم بالقرارات البيئية من خلف الكواليس، من دون أي اعتبار للمصلحة العامّة أو للمعايير العلمية والصحية. وأكد أنّ هذه المافيا تسعى إلى تحقيق مكاسبها الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب صحة الناس وسلامة الطبيعة.
السبب الثاني، كما يقول، “هو تعيين الأشخاص غير المناسبين في المواقع الحسّاسة، إذ يتم إسناد مسؤوليات بيئية دقيقة لأفرادٍ يفتقرون إلى الخبرة والكفاءة، وغالبًا ما يُختارون بناءً على المحاصَصَة الطائفية أو الولاءات السياسية، ما يؤدّي إلى تفريغ المؤسّسات من مضمونها ويعطّل أي قدرة حقيقية على اتخاذ قرارات فاعلة”.
أمّا السبب الثالث، “فيكمن في منطِق الرّبح السريع الذي يُهيمن على إدارة الملفات البيئية. فبدلًا من أن تُبنى المشاريع على أسسٍ عِلميةٍ تُراعي المصلحة العامة، تتحوّل إلى صفقاتٍ تحكمها الزبائنية السياسية، إذ يسعى كل طرف إلى تأمين منفعةٍ لجماعته، مُتجاهلًا العواقب البيئية طويلة الأمد”.
وبحسب أبي راشد، فإنّ “هذا الواقع لا ينعكس فقط على البيئة، بل يضرب صحة اللبنانيين بشكلٍ مباشرٍ، مؤكّدًا أن اللبناني اليوم يعيش في بيئة مُسمّمة، هواؤه ملوث، ماؤه غير صالح للشرب، وتربته مُشبعة بالمواد السامة، ما أدّى إلى تراجعٍ خطيرٍ في المناعة العامة”. ويتابع: “اللبناني لم يعد يملك مناعةً، وأبسط عارض صحي قد يفرض عليه دخول المستشفى، نتيجة الانكشاف الكامل أمام الجراثيم والمعادن الثقيلة والسموم الناتجة عن حرق النفايات والصرف العشوائي”.
كما يحذّر من أنّ “الوضع البيئي الراهن يشكّل أرضًا خصبةً لتفشّي الأمراض المُزمنة والخطيرة مثل السرطان، وأمراض الجهاز التنفسي، والحساسيّات الجلدية، وسط انعدام تام للحماية الصحية والبيئية”.
وحول إمكانية الخروج من هذه الأزمة، يؤكّد أبي راشد أنّ “الحلول ممكنة لكنّها تتطلب إجراءاتٍ فوريةً وجذريةً، تبدأ بتحقيق وعود الإصلاح السياسي، التي لطالما بقيت حبرًا على ورق، على الرَّغم من تعاقب العهود والوعود الرسمية”.
ويشير إلى أنّ “البلديات يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في هذا الإطار، مشيرًا إلى أنّ بعضها بدأ يُظهر “نَفَسًا جديدًا” في التعامل مع الملفات البيئية بقدرٍ من الشفافية والمسؤولية. لذلك أدعو إلى دعم هذه المبادرات المحلية، وتمكين البلديات ماديًا وتقنيًا لتنفيذ مشاريع مثل فرز النفايات من المصدر، معالجة الصرف الصحي، ومراقبة الانبعاثات الصناعية والحرائق العشوائية”.
ويشدد أبي راشد أيضًا على أن “أي خطوة إصلاحية لن تنجح ما لم تقترن بمكافحة فعلية للفساد، خاصة داخل الإدارات البيئية والصحية، واصفًا إياه بالعائق الأكبر أمام أي تغيير حقيقي، لأنه يسمح باستمرار الكارثة تحت غطاء الصمت والتواطؤ”. ويوضح أن “التغيير لا يمكن أن يُنجز بشكلٍ منفردٍ، بل يتطلب تضافر جهود الدولة والبلديات والمجتمع المدني، والمواطن نفسه، لأن البيئة لم تعد تحتمل مزيدًا من التأجيل أو التسويات”.
ويختم أبي راشد حديثه: “لقد بلغنا مرحلة الخطر الحقيقي، وإذا لم نتحرّك اليوم، فقد لا يكون هناك غد صحي نعيشه”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() إسرائيل تُجهض إيران بضربة موجعة… تغيّر قواعد اللعبة! | ![]() استقرار في معدّلات الطلاق في لبنان: هل انتهت العاصفة أم تغيّر شكلها؟! | ![]() “نفق شكّا”: فخّ قاتل يهدّد الأرواح… والدولة تتفرّج! |