عن خسوف الهلال الشيعي..

كتب Marc Saikali لـ”Ici Beyrouth”:
خمسة وأربعون عامًا أفناها آية الله الخميني وخلفه علي خامنئي في محاولة لترسيخ هلال مذهبي يمتد من كابول شرقًا إلى بيروت غربًا، مرورًا ببغداد ودمشق وصنعاء.
مشروع “ثوري” ضخم بواجهة دينية ونواة عسكرية في الباطن.. إمبراطورية على هامش العالم العربي، تعتاش على آلام الطوائف والمليارات المنهوبة من المال العام والمغطاة بتجارة السلاح والمخدرات والبشر. أرادت طهران أن تكرس نفسها منارة للشيعة، وتقنعهم بأنهم مضطهدون.. ومن حيث لا تدري، عبّد هذا المشروع طريق سقوطها الحر نحو الهاوية!
وفي الأصل، باكورة المشروع.. مستنقع من الوحل والدم.
في العام 1980، دقت طبول الحرب الإيرانية العراقية.. حينها، حاولت الجمهورية الإسلامية التي أبصرت النور بالكاد، تصدير ثورتها. وأولى المحطات: العراق، بفضل أغلبية شيعية اعتبرتها طهران قابلة للاحتضان. لكن العراقيين لم يستجيبوا لنداء الخميني.
مضت 8 سنوات على خط النار: أكثر من مليون قتيل.. مدن مدمرة وغاز كيميائي وخنادق وسلاح وأطفال قُذفوا إلى جبهات الموت. بعضهم وعدوا بفتح أبواب الجنة بمفاتيح بلاستيكية ذهبية صغيرة خنقت أعناقهم.
وضعت إيران حجر الأساس لإمبراطوريتها على أنقاض جيلٍ من الضحايا وحمام دم لا يخدم إلا طموحاً واضحاً: تطويق العالم العربي بهلال شيعي سياسي–عسكري يمتد من أفغانستان حتى سواحل المتوسط. هلال وُلد من رحم الكارثة والرعب والرصاص والأكاذيب.
ثم دقت ساعة التوسع الشامل.. حاولت إيران تعبئة الهزارة في أفغانستان والأتراك في باكستان. وفي كويتا وكراتشي، لم توفر جهداً لإثارة الانقسامات، لكن تحالفاتها بقيت هشة. لا نصر استراتيجي ولا اختراق فعلي. لم تسجل سوى المزيد من التوترات. وفي السعودية، أبقت اهتمامها منصباً على شرق البلاد نظراً للأغلبية الشيعية والكنوز النفطية في بعض المناطق.. فغذت الاضطرابات والخطب والتسللات… لكنها لاقت إخفاقاً ذريعاً بمواجهة أجهزة الأمن السعودية، وباءت محاولاتها بالفشل الواحدة تلو الأخرى.
وفي البحرين، سجل حافل بالإخفاقات أيضاً. محاولة التمرد الشيعي أُجهضت في مهدها. تمرد ذو أغلبية شيعية في مملكة سنية. ثبات السلطات قتل الوهم.. وبالنتيجة، مغامرة فاشلة أخرى.
لكن في العراق عام ٢٠٠٣، لاحت بعض البشائر بالنسبة لإيران. ازدهرت الميليشيات الشيعية وتكاثرت واخترقت الوزارات، وظنت طهران أنها سيطرت على بغداد. ومع ذلك، سرعان ما استحالت عامل تفكك وفوضى. حتى الشيعة الذين اعتقدتهم طهران “قاعدتها الطبيعية”، لم يتوانوا عن التظاهر في الشوارع، رافضين “أميركا وإيران على حد سواء”. مفارقة تاريخية: أبناء المشروع المفترضون.. هم أوّل من تمرّد عليه.
وفي سوريا، سقطت أهم الركائز بعد أن أنقذت إيران في السابق نظام بشار الأسد بفيالق من الميليشيات الشيعية من العراق ولبنان وأفغانستان. الأمور انقلبت رأساً على عقب منذ ستة أشهر. وانهار النظام بيد تحالف سني مسلح. فُقدت الواجهة المتوسطية وتصدّع المحور. انكسر الحاجز السوري. وخسر المحور واجهته الأولى على البحر الأبيض المتوسط.
أما في اليمن، لم تُسفر المليارات التي ضختها إيران في جيوب الحوثيين إلا عن حرب أهلية مدمرة، وصواريخ بلا مرسى وفوضى إنسانية بلا أي أفق.
وفي لبنان، اندفع حزب الله، جوهرة إيران الاستراتيجية، بتهور في حرب غزة على أمل تطويق إسرائيل. لكن الحسابات كلها سقطت. تل أبيب ردت بقوة وبسرعة. سلاح الجو أهلك أغلب كوادر الحزب، وفرغت القرى الشيعية من سكانها واستحال الجنوب منطقة منكوبة. سقط “توازن الرعب” الشهير، وتبخر الحلم الإيراني بالوصول إلى المتوسط. كل ذلك في عام ونيف فقط!
أينما وطأت إيران قدمها، تبعتها الحرب. وأينما ادعت الدفاع عن الشيعة، لم تأت عليهم إلا بالخراب. لا انتصار تحقق ولا سلام تأصل.. بل سلسلة من الحروب العبثية والتمردات الفاشلة والانهيارات المتلاحقة والإخفاقات الإستراتيجية.
واليوم، ها هي طهران تواجه هجومًا إسرائيليًا مركّزًا على برنامجها النووي والصاروخي، بنفس النهج الذي استهدف فيه حزب الله: اغتيالات دقيقة ومنشآت سويت بالأرض وتلاشي شبح الردع.
حتى البرنامج النووي المدني الإيراني ما عاد أكثر من مجرد ذكرى.. لم يعد أحد يذكره أو يصدّق جدواه.
إيران تعنتت ورفضت كل الفرص الدبلوماسية. اختارت طريق الهوس الإنتحاري والتهديد والمماطلة وانتظار المهدي. وانتهت بالوقوع في فخ ادعاءاتها.
الهلال الشيعي؟ ما عاد أكثر من حلم محترق.. ووهم تحوّل إلى كابوس إقليمي.
جيل كامل من الملالي انشغل بالتوسع بدل محاولة الفهم والوعي. لم يدرك هؤلاء أنّ العالم تغير وأشاحوا بنظرهم عن غضب شعوبهم نفسها.
تلك هي النهاية المتوقعة.. لقد صدق جون كينيدي فعلا حين قال إنّ “الإمبراطوريات لا تُغتال… بل تنتحر.”