نانسي اختفت… هكذا تتحوّل عاملات المنازل إلى ضحايا شبكات الدعارة!

شبكات استدراج العاملات إلى أعمال غير قانونية باتت تضمّ لبنانيين وسوريين، وتتمركز في مناطق مثل برج حمود، والمعاملتين، والدورة، والأوزاعي، وتعمل هذه الشبكات من خلال صفقات مع مكاتب استقدام تجدّد إقامات العاملات بشكل صوري، وتسجلهنّ كعاملات منزليات، في حين يُشغّلن في أنشطة مخالفة للقانون.
كتبت كارين القسيس لـ”هنا لبنان”:
في الآونة الأخيرة، تصدّر ملف الدعارة والاتجار بالبشر المشهد في مناطق محدّدة، حيثُ انكشف الستار عن شبكةٍ واسعةٍ من الانتهاكات التي ظلت طيّ الكتمان، فعلى الرَّغم من بعض التوقيفات المتفرّقة التي شهدها هذا الملف، لا تزال الكثير من خفايا ما يُعرف بـ”الليالي الحمراء” مجهولةً، يُحيط بها الغموض والصمت.
ولم يعد الحديث يقتصر على حالاتٍ فرديةٍ من هروب العاملات أو خلافات بين مكاتب الاستقدام وأصحاب المنازل، بل تطوّر الأمر إلى واقعٍ خطيرٍ يستدعي وقفةً جادّةً من الجميع، لا سيّما بعد أن تحوّلت بعض شركات التنظيف إلى واجهاتٍ تنشط في عالم الدعارة تحت غطاء العمل المنزلي.
في أحد أحياء المتن الشمالي، حيثُ تتداخل الأضواء الخافتة مع ظلال الجدران، كانت السيدة ميرنا تقف أمام مكتب استقدام شرعي ومرخّص، تحمل في قلبها أملًا بسيطًا بالعثور على عاملةٍ منزليّةٍ تساعدها على تدبير شؤونها، كانت الحياة اليوميّة تُثقل كاهلها، معتقدةً أنّ العثور على يد مساعدة سيمنحها بعض الراحة.
لم تكن ميرنا تدري أنّ هذه الخطوة البسيطة ستقودها إلى مواجهةٍ قاسيةٍ مع واقعٍ مظلمٍ، يختبئ خلف الواجهات القانونية والوعود البرّاقة، إذ بعد أيّام من التواصل، استقدمت ميرنا عاملةً إثيوبيةً تُدعى “نانسي”، كانت شابةً هادئةً، بدت في البداية ملتزمةً ومجتهدةً، مما بعث في نفس ميرنا شيئًا من الاطمئنان… ولكن هنا كانت “الصدمة”، فبعد أسبوعَيْن فقط مرّا بهدوء، انقلبت الصورة فجأة، ففي أحد الصباحات، استيقظت ميرنا لتكتشف أن نانسي اختفت من دون أي سابق إنذار، تاركةً خلفها حقيبةً صغيرةً وبعض الأسئلة المقلقة.
في البداية، ظنّت ربّة المنزل أنّ الأمر يتعلق بهروب عابر بسبب ضغوط العمل أو الحنين لوطنها الأم، لكنّها لم تترك الأمر يمرّ مرور الكرام، فبدأت ما يشبه “التحقيق” الخاص بها، فاتصلت بالمكتب، وسألت الجيران، وتواصلت مع معارف لها يعملون في مجال الاستقدام، شيئًا فشيئًا، بدأت تتكشّف أمامها خيوط قصّة لم تكن تتخيّل وجودها.
عرفت لاحقًا أنّ نانسي لم تهرب من تلقاء نفسها، بل كانت على تواصل كل هذه المدة مع صديقةٍ إثيوبيةٍ تقيم في لبنان، تعمل في مجال الدعارة، وبالتالي تمّ استدراجها بوعد الحياة السهلة، والمال السريع، وساعات العمل القليلة، وبدلًا من روتين المكنسة والمطبخ، وجدت نفسها على أبواب عالم مظلم، لا يعترف بإنسانية أو كرامة.
اكتشفت ميرنا أنّ العاملة وقعت ضحية شبكةٍ منظّمةٍ تتاجر بالبشر، تستخدم واجهات قانونية مثل مكاتب استقدام وشركات تنظيف لتغطية أنشطتها، هذه الشبكة لا تكتفي باستدراج العاملات، بل تخلق لهنّ بيئةً مغلقةً، تنقطع فيها الصلة بالعالم الخارجي، ويُعاد تشكيل مصيرهنّ كما تشاء.
كانت شهادة ربّة هذا المنزل بمثابة نافذة كشفت جانبًا صغيرًا من واقعٍ أكبر بكثير، واقع مليء بالخداع والاستغلال، وبالتالي لم تكن قصتها مع نانسي حالةً معزولةً، بل حلقةً من سلسلة طويلة من الضحايا اللواتي يُسحبن إلى قاعٍ لم يخترْنه، وتُنتزع منهنّ حقوقهنّ في وضح النهار، تحت أعين الجميع.
من جهته، يؤكّد نقيب مكاتب الاستقدام، جوزيف صليبا، لـ “هنا لبنان”، أنّ الرأي العام غالبًا ما يخلط بين المكاتب المرخّصة والسماسرة الذين ينتحلون صفةً رسميّةً، مشدّدًا على أنّ المكاتب المرخّصة تعمل تحت إشراف وزارة العمل والأمن العام، وتخضع لرقابةٍ صارمةٍ ومحاسبةٍ فوريةٍ في حال ارتكاب أيّ مخالفة. أمّا السماسرة، فليست لهم أيّ صفة قانونية، ويستخدمون هواتفهم الشخصية للإعلانات المضلّلة على مواقع التواصل، مستغلّين جهل بعض المواطنين والمغتربين.
ويضيف صليبا أنّ النقابة، التي تمثل نحو 85% من مكاتب الاستقدام، تلتزم حصريًا بالاستقدام السنوي للعاملات، ولا علاقة لها بالتوظيف بالساعة أو باليوم، وهو أمر مخالف للقانون، موضحًا أنّ من يشغّل العاملات بطريقة غير قانونية غالبًا ما يُسكنهنّ في أماكن نائية، ويُخفي نشاطه خلف مؤسساتٍ وهميةٍ، مستدرجًا الزبائن بعروض ورواتب مغرية.
كما يلفت إلى تورّط بعض شركات التنظيف في هذه الفوضى، حيثُ تستغلّ عاملات غير حاصلات على إقامات عمل قانونية، وتُشغّلهنّ خارج الإطار الرسمي، متسائلًا، مَن هي الجهة التي تُراقب هذه الشركات؟ وإذا كانت مكاتب الاستقدام تُغلق بقرارٍ بسيطٍ من وزارة العمل، فلماذا تُترك شركات التنظيف خارج دائرة المساءلة؟
ويحمّل صليبا البلديات جزءًا من المسؤولية، متسائلًا أيضًا عن دورها في مراقبة الأبنية التي تُستخدم كمساكن غير قانونية للعمالة الأجنبية، لا سيّما في مناطق مثل النبعة، وبرج حمود، وصبرا، والأوزاعي، التي تحوّلت إلى ملاذٍ لهذه الفئة المستضعفة.
ومع تزايد الشهادات وتكرار الحالات، تتكشّف خيوط شبكة واسعة تتجاوز التجاوزات الفردية، لتفضح منظومةً متكاملةً من التواطؤ والإفلات من العقاب، عند هذه النقطة، لا يعود الملف محصورًا بشهادات الأهالي أو اتهامات عشوائية، بل يتداخل مع معطياتٍ أمنيةٍ موثّقةٍ تسلّط الضوء على عمق الأزمة وتشعّبها.
من جانبه، يكشف مصدر أمني لموقع “هنا لبنان” أنّ شبكات استدراج العاملات إلى أعمال غير قانونية باتت تضمّ لبنانيين وسوريين، وتتمركز في مناطق مثل برج حمود، والمعاملتين، والدورة، والأوزاعي، وتعمل هذه الشبكات من خلال صفقات مع مكاتب استقدام تجدّد إقامات العاملات بشكل صوري، وتسجلهنّ كعاملات منزليات، في حين يُشغّلن في أنشطة مخالفة للقانون.
ويُشير المصدر إلى تورّط شخصيّات تدير مكاتب استقدام عدّة تعمل تحت غطاء قانوني، إذ جرى توقيف بعضها مراتٍ عدّة، لكنها سرعان ما تعود إلى العمل، ما يثير تساؤلات حول حجم الحماية أو اللامبالاة المحيطة بهذه القضايا.
ويُفصح المصدر الأمني أنّ أخطر الأساليب المتّبعة هو إدخال العاملة إلى لبنان عبر “كفيل وهمي” يتقاضى نحو 300 إلى 500 دولار مقابل تسجيلها باسمه، ما يتيح للمكاتب التحايل على الحصص الرسمية وتفادي الرقابة، لتُباع العاملات لاحقًا في السوق السوداء، حيثُ تصل كلفة تشغيل إحداهنّ إلى 800 دولار شهريًا، في ظلّ الإقبال الكبير وندرة الخيارات القانونية.
في المقابل، يُشير مصدر متابع إلى أنّ الدولة كانت قد فرضت سابقًا غرامات مالية باهظة على أرباب العمل الذين يشغّلون عمالةً غير شرعيةٍ، وصلت إلى 50 أو 60 مليون ليرة لبنانية، إلّا أنّ هذا القرار بقي حبرًا على ورق، ولم يُنفّذ فعليًا، ما يُثير علامات استفهام جدّية حول مدى التزام الدولة في مواجهة هذا الواقع الفوضوي.
ويبقى السؤال الأبرز، في ظلّ هذا الواقع، أيّ مستقبل ينتظر لبنان ما دامت الكرامة الإنسانية تُباع على قارعة الطريق، فيما تغيب الرقابة، ويُستبدل القانون بصمتٍ مطبق؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() مياه الضاحية والشياح تتدفق.. والمتن يئن تحت وطأة العطش |