“السلام”.. كلمة في قاموس الحرب؟

كتبت Sana Richa Choucair لـ”This Is Beirut”:
منذ اللحظة الأولى لعودته إلى البيت الأبيض، وضع الرئيس دونالد ترامب “السلام” في محور خطاباته وتوّج بهذه الكلمة وعوده السياسية بحلول سريعة للحروب التي طال أمدها. وللحظة، بدا السلام ومفاتيحه على قاب قوسين.. لكن، خلف البساطة الظاهرية للكلمة، يكمن إرث معقد: ماذا لو لم يكن السلام في جوهره مرادفًا للسكينة؟ وماذا لو عكس في عمقه التاريخي الصراعات أكثر بكثير مما أرسى دعائم الوفاق؟
لم يتوقّف ترامب منذ عودته إلى سدّة الرئاسة في كانون الثاني 2025، عن إطلاق الوعود بإحلال السلام: إنهاء الحرب في أوكرانيا “خلال 24 ساعة” وفرض تسوية شاملة في الشرق الأوسط، تحديداً في غزة. وعود سوّقت بلغة حاسمة كحلول سريعة لصراعات مزمنة. ومع ذلك، حين يذكر ترامب السلام، لا يستحضر شعارًا سياسيًا فحسب، بل ينهل من تقليد خطابي قديم، لا يسهل فيه الفصل بين السلام والنظام وأحيانًا الخضوع. وتخفي هذه العبارة، المطمئنة في الظاهر، معنى آخر أقل وُدًّا في طيّاتها وأكثر ارتباطا بهندسة الهيمنة. فما الذي قد تحمله لنا هذه الكلمة عن تاريخنا وعن حروبنا المتكررة، وعن أوهامنا الجماعية حول الاستقرار؟
جذور تاريخية ومثالية متقلّبة
تجد الكلمة الإنكليزية “peace” جذورها في اللاتينية pax, pacis، والتي لم ترمز آنذاك للهدوء وللإستقرار بل لفعل إحلال السلام، أي تسوية النزاع من خلال الاتفاق. وهي تنحدر من الجذر نفسه للكلمة اللاتينية pactum، التي ترادف “اتفاق” أو “عقد”، ومنها اشتُقت كلمة pact في الإنكليزية. وفي الأصل، لا تعبّر مفردة “السلام” عن الانسجام الطبيعي بقدر ما تجسّد التوازن التفاوضي الهش، والمهدد على الدوام بالانهيار.
ويتقاطع ذلك مع التعريفات في روما القديمة، حيث كلمة pax تعني غياب الحرب، وهذا يعني أنّ السلام كان في الغالب مفروضًا بالقوة. وخير دليل الـ”سلام الروماني” (Pax Romana)، الذي طالما امتدحته كتب التاريخ، والذي لم يعد كونه أكثر من فترة من الاستقرار، بُنيت على إخضاع الشعوب المهزومة تحت سلطة الإمبراطورية. ومع مرور الأيام، دخلت الكلمة إلى اللغة الإنكليزية القديمة بصيغتي paes أو paece، عبر اللاتينية والفرنسية، وصولًا لشكلها المعروف اليوم خلال فترة الإنكليزية الوسطى. أما في النصوص الوسيطة، أشارت كلمة “السلام” إلى السكينة المنزلية أو إلى “سلام الملك” (أي الوعد الملكي بالحماية)، أو حتى إلى السلام الروحي الداخلي. والسلام قد يكون قانونيًا أو اجتماعيًا أو دينيًا، لكنه يبقى مشروطًا ولا يُمنح إلا بوجود سلطة أو بعقد أو بشروط.
وعود هشة
لم تبصر أولى المعاهدات متعددة الأطراف النور إلا اعتبارًا من القرن الخامس عشر، مع بروز أوروبا بصيغتها الاستعمارية، حيث أخذت الإمبراطوريات الناشئة ترسم ملامح نظام قانوني دولي، سيشكل في ما بعد حجر الأساس لما يعرف اليوم باسم “القانون الدولي”.
هذه الأطر القانونية حاولت مع الزمن، وتحديدًا بعد الحروب الكبرى التي اجتاحت أوروبا، أن تنظّم الحروب وتضبط أدواتها، سعيًا لاستدامة السلام. وشكّل صلح وستفاليا (1648) لحظة مفصلية في هذا المسار، تلته لاحقًا عصبة الأمم عام 1919، ثم تأسيس الأمم المتحدة سنة 1945. ومذاك، بات “السلام” هدفًا سياسيًا عالميًا.. أقرب للمثالية أحيانًا، وغالبًا ما يتحول لمحلّ نزاع عند محاولة ترجمته إلى سياسات وأفعال.
السلام في الخطاب المعاصر
وفي أيامنا هذه، تتأرجح مفردة “السلام” بين معنيين متناقضين في العمق: السلام السلبي، أي مجرد غياب العنف أو توقف الأعمال العدائية، والسلام الإيجابي، الذي يُنظر إليه كتعاون فعّال وتعايش متناغم بين الأفراد والمجتمعات.
وتحتل كلمة “السلام” في الشرق الأوسط، موقعًا مركزيًا في كل مسار تفاوضي ولا تنفك تُكرَّر في كل مبادرة سياسية. ومع ذلك، لا تستخدم بمعنى موحد وتتبدل معانيها بحسب التجربة والمواقف. وبينما يرى البعض أنّ السلام يتحقّق حين تصمت البنادق وتخبو نار المعارك.. يعتقد آخرون أنّ السلام يبقى حبيس الكلمات والشعارات إن استمر الظلم أو الاحتلال أو الفقر.
قد يحلّ السلام كمثال أعلى يحتفى به بالنسبة للبعض، أو كقناع يُخفي علاقات القوة ويُجمّلها بالنسبة للبعض الآخر. وفي جميع الحالات، لا يحلّ في الجوهر كحالة طبيعية تنشأ من تلقاء نفسها، بل يبقى ثمرة فعل إرادي ونتاج خيار سياسي أو أخلاقي أو ديني يتطلّب توافقًا، وبالتالي يتطلب جهدًا من نوع آخر. السلام، بهذا المعنى، ليس نقيضًا للحرب، بل أقرب لامتداد لها بأساليب مختلفة. والثابت أنه يأتي كحالة هشّة ومتصدعة، تستدعي البناء والترميم مرارًا وتكرارًا..