زحلة تبلّغت وبلّغت… عمليات بيع وتملّك مشبوهة تغزو المدينة!

زحلة اليوم لا تواجه خطرًا عابرًا، وما لم تستطع الحروب والفتن السياسيّة والطائفيّة أن تفعله، يجري اليوم عبر صفقات موثّقة، وعقود بيع قانونيّة، لكنّها محمّلة “بالخيانة العظمى”، فما يحصل ليس تبدّلًا عقاريًا بسيطًا، بل عملية تفكيك مُمنهجة للوجود المسيحي الجماعي في المدينة
كتبت كارين القسيس لـ”هنا لبنان”:
أيُّها “الزحلاوي”، آن الأوان لتواجه الحقيقة وجهًا لوجه، فلا تبحث عن المؤامرة في الجنوب، ولا ترفع إصبع الاتهام نحو الضاحية، ولا تتوارَ خلف مقولة “الجهات الخارجية”. من باع زحلة ليس غريبًا عنها، بل من تربّى في أحيائها، ومن يعرف مداخلها ومخارجها، لكنّه قرّر أن يبيعها في لحظة طمعٍ مقابل ورقة نقديّة خضراء، وبالتالي زحلة لا تسقط اليوم تحت الاحتلال أو بالترهيب، بل تُباع طوعًا، وبندِيّةٍ وتواقيع رسميّة، على طاولاتٍ باردةٍ لا تعرف شيئًا عن حرارة الانتماء أو معنى الوفاء.
من ينهش قلب هذه المدينة ليس من عَبَرَ الحدود، بل من يعيش داخل أحيائها، ويختبئ خلف لقب “ابن المدينة”، بينما يُمارس أفظع أنواع الخيانة، إنّه من قايض تراب الأجداد بعقود البيع، ومن استبدل قيمة الأرض التي رُويت بعرق الأجيال، بمبلغٍ يُحوّله إلى مشروعٍ تجاريّ على أنقاض الذاكرة الجماعيّة.
خيانةٌ مُكتملة الأركان، وجريمةٌ تُرتكب بوعيٍ وبدمٍ باردٍ، نعم… ليست جريمةً فرديّةً عابرةً، بل خرق جماعي للقيم، وتصفية بطيئة لهويّة بكاملها، إنّها طعنة موجّهة إلى التاريخ، وإلى زحلة التي لطالما شكّلت رمزًا للتعدديّة والانفتاح والصلابة.
وفي الوقت الذي انتشر خبر مفاده بأنّ أحد رجال الأعمال المعروفين في المدينة والذي يتباهى بمبادراته “الإنسانية”، ويقدّم نفسه كراعٍ اجتماعي، تقصّت “هنا لبنان” عن الأمر لتكتشف أنّ الخبر صحيح، وأنه تمّ بيع عقارٍ شاسعٍ في موقعٍ حسّاسٍ من زحلة، لا ليبني مدرسةً، ولا ليقيم مستشفى، بل بهدفٍ وحيدٍ، الربح الفاحش، والنتيجة ليست فقط مالًا في جيبه، بل زلزالًا ديموغرافيًا يهدّد نسيج المدينة من الداخل.
هذه الصفقة ليست عاديّةً، لأنّ الجهة التي اشترت ليست جهةً عاديّةً، بل تابعةً لمشروعٍ منظّمٍ له أهداف واضحة في تغيير هويّة المدينة، ولعلّ ما يجعل الأمر أكثر خطورةً هو أنّ هذه التحرّكات لم تعد خفية، بل باتت جزءًا من خطةٍ واضحة المعالم، تُنفّذ بصبر، وبميزانيّاتٍ ضخمةٍ، وبشبكاتٍ منظمةٍ من السماسرة.
الأرض تُشترى بعقودٍ قانونيةٍ، نعم، لكن خلف كلّ عقدٍ، قصّة خيانة، وتفريط، واستغلال لحاجةٍ أو يأس، والخلل ليس في القوانين التي تسمح بالبيع، بل في الضمير الذي يقبل بذلك، فعملية بيع قطعة أرضٍ في زحلة، اليوم، لا تُشبه أيّ عملية بيع عقارية أخرى، بل تشبه فكّ حجر من جدار البيت، حجرًا وراء حجر، حتّى ينهار السقف على رؤوس الجميع.
صفقات تتمّ بصمت، بأسماء مكرّرة، وسماسرة معروفين، يتنقلون من منطقة إلى أخرى، ويعرفون تمامًا من يعاني من ضائقةٍ ماليةٍ، ومن فقد الأمل، ومن يمكن التأثير فيه. هؤلاء لا يشترون عقارًا، بل يشترون حضورًا، وموقعًا، وامتدادًا جغرافيًا، ومع كل صفقةٍ جديدةٍ، تنكمش الخريطة المسيحيّة في المدينة أكثر، ويزداد الشرخ بين ما كانت عليه زحلة، وما يُراد لها أن تصبح.
ومع تصاعد هذه العمليات، لم نسمع صوتًا واحدًا جدّيًا من القوى السياسية المحلية، فالأحزاب تتنازع الحصص، والمقاعد، والتحالفات، لكنّها تصمت حين يتعلّق الأمر بالأرض، إذ من المفترض أن يكونوا حماة المدينة، لكنّهم غائبون، بل إنّ بعضهم، للأسف، شريكٌ في اللعبة، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، بصمته أو صفقاته أو شبكاته.
وحدها الكنيسة رفعت الصوت، ووحدها تصدّت، حين تدخّل أحد كبار المطارنة، واشترى العقار الذي باعه “ابن زحلة”، ودفع مبلغًا إضافيًا ضخمًا لاستعادته. كان ذلك موقفًا شجاعًا، يُعيد الأمل في أنّ المدينة لم تُبَعْ بالكامل بعد، كان ذلك فعل مقاومة أخلاقية في وجه سيلٍ جارفٍ من الجشع والانحدار.
مصادر نيابية بقاعيّة، تؤكد لـ”هنا لبنان” أنّ ما يجري ليس مجردَ حركة سوق، ولا موجة استثمار عابرة، إنّه مشروع كامل، له أبعاد استراتيجيّة، يتسلّل بهدوءٍ ليُعيد رسم الخريطة السكانيّة، والهوية الدينية، والوجدان الجماعي للمدينة، مشدّدةً على أنّ المشروع لا يقتصر على زحلة، بل هو جزءٌ من سياسةٍ أوسع تطال مناطق أخرى، لكنّ زحلة تمثّل جائزةً كبرى نظرًا لموقعها، وثقلها الرمزي، ودورها التاريخي.
ويضيف: “من المؤسِف أنّ كثيرًا من الزحلاويين يتفرّجون، أو يتواطأون، أو يبرّرون، فالبعض يبيع بدافع الحاجة، والبعض الآخر بدافع الطمع، وآخرون لا يكترثون، وهذه هي المأساة الحقيقيّة، فالخطر لا يأتي فقط من “الآخر”، بل من الداخل، من أبناء المدينة الذين فقدوا البوصلة، وانطفأ فيهم الشعور بالانتماء.
الخيانة تبدأ من الداخل
لا يمكن أن نحمّل المشتري وحده المسؤوليّة، مهما كانت خلفيّاته، المشكلة ليست فقط في مَن يشتري، بل في مَن يبيع وهو يعلم تمامًا ماذا يفعل، فالزحلاوي الذي يوقّع على عقد البيع لا يسلّم أرضًا فحسب، بل يفرّط بتاريخ، ومجتمع، ومستقبل. وللأسف، في الكثير من الحالات، حين يُحاول ابن المدينة نفسه أن يشتري، يُفاجأ بأنّ السعر قد تضاعف عليه، بينما يُقدَّم للمشتري “المدعوم” كلّ التسهيلات، إنّها سياسة الأرض النازفة.
صرّاف معروف في المنطقة، يُدعى “ح.د”، يُقيم في جلالا، ويُقال إنّه مرتبط بـ”جمعية القرض الحسن”، أي بحزب الله، اسمه بات متداولًا في معظم صفقات البيع، هذا الرجل، مع ابنه ومقرّبين منه، يجوبون المنطقة ويشترون عقاراتٍ ضخمةً من مسيحيّي زحلة وتعنايل والكسارة والمدينة الصناعيّة، ومن أبرز ما اشتروه، عقار السيّدة روز توما (82000 متر مربع في تعنايل)، وعقار موسى فريجي (الذي استُرجع بجهدٍ كنسيّ)، وعقار أنطوان أبو سليمان (3000 متر في كسارة)، العقار رقم 696 (91105 أمتار في المدينة الصناعيّة)، وخمسة عقارات قرب الجامعة اليسوعيّة، ومؤخّرًا عقار ضخم في الكسارة.
هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، إنّها إشارات إنذار حمراء، الأرض تُنتزع تدريجيًا، لكن بطريقةٍ مدروسةٍ، ومحسوبةٍ، لا تحتمل التأويل أو الصمت.
في نهاية المطاف، زحلة اليوم لا تواجه خطرًا عابرًا، وما لم تستطع الحروب والفتن السياسيّة والطائفيّة أن تفعله، يجري اليوم عبر صفقات موثّقة، وعقود بيع قانونيّة، لكنّها محمّلة “بالخيانة العظمى”، فما يحصل ليس تبدّلًا عقاريًا بسيطًا، بل عملية تفكيك مُمنهجة للوجود المسيحي الجماعي في المدينة، وعلينا أن نقولها بوضوح: “إنّها مؤامرة ناعمة بأيدٍ داخليّةٍ، لا خارجيّة فقط”.
الحقيقة، مهما كانت موجعة، أنّ “حزب الله”، أو الجمعيّات المالية التابعة له، لم يدخلوا إلى قلب زحلة بالقوة، دخلوا من الأبواب التي فتحها أبناء زحلة أنفسهم، وبالتالي تُباع الأرض، ويُفرّط بالهويّة، والسكوت جريمة، والمحزن أنّ الزحلاوي الذي يمدّ يده اليوم ليقبض ثمن البيع، سيقف غدًا على أطلال بيت، لا مكان له فيه، ولا كنيسة يدفن فيها، ولا جيران يعرفونه.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() نانسي اختفت… هكذا تتحوّل عاملات المنازل إلى ضحايا شبكات الدعارة! | ![]() مياه الضاحية والشياح تتدفق.. والمتن يئن تحت وطأة العطش |