بين التغيير والتكتيك: الشرع ووهم الصورة الجديدة

ترجمة “هنا لبنان”
كتب Marc Saikali لـ”Ici Beyrouth“:
الغارات الإسرائيلية لم تهمد منذ يومين ضد الميليشيات التي باتت رديفةً للجيش النظامي السوري. ولم توفّر إحداها الأربعاء مدخل مقر القيادة السورية في قلب دمشق نفسها. الرسالة العسكرية والسياسية واضحة الفحوى: لا تساهل البتة مع الانتهاكات المتكرّرة بحق الدروز السوريين.
ومع ذلك، على الأرض تكمن المشكلة في الغموض المحيط بهوية المهاجمين. فمن تراه الذي يعتدي على المناطق الدرزية؟ هل تراهم جنود النظام؟ أم أعضاء سابقون في الجماعات الجهادية التي أوصلت أحمد الشرع إلى سدّة الرئاسة في سوريا؟ أم تراهم كما يشيّع البعض، من البدو المُجنّدين لخدمة أجندة خفية؟ الثابت الوحيد وسط كلّ الغموض أن مدينة السويداء، كبرى المدن الدرزية تعرّضَتْ لاجتياحٍ على يد جماعاتٍ مسلحةٍ لم توفّر فيها أحدًا وعاثت فيها فسادًا ورعبًا.
وبينما يتيح الغموض نفسه التنصّل من المسؤولية وطمس المعالم، المزعج في الأمر هو أنّ التعتيم استحال سمةً خاصةً بالنظام السوري الجديد.
والواقع هو كالتّالي: على الأرض، الأقليات ضحية ممارسات دموية… بينما دهاليز السلطة تنضح ببيانات التنديد المخملية والدعوات الجوفاء إلى وحدةٍ وطنيةٍ مهدورةٍ. كأن بهذا التناقض الفاضح مرآة الحاكم الجديد… قائد جهادي استفاق رئيسًا بربطة عنق، يصافح الدبلوماسيين الغربيين (الرجال منهم… ففي النهاية، الطبع يغلب التطبع)…
والواقع هو كالتالي: على الأرض، الأقليات ضحية ممارسات دموية.. بينما دهاليز السلطة تنضح ببيانات التنديد المخملية والدعوات الجوفاء لوحدة وطنية مهدورة. كأن في هذا التناقض الفاضح مرآة الحاكم الجديد.. قائد جهادي استفاق رئيسا بربطة عنق، يصافح الدبلوماسيين الغربيين (الرجال منهم.. ففي النهاية، الطبع يغلب التطبع)…
تكاد سيرة أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقًا، تفوق المعقول. فها هو الشرع نفسه، الذي شكّل ذات يوم واجهة جبهة النصرة، الذراع السورية لتنظيم القاعدة، يتحدّث اليوم بخطابٍ قوميّ وحدوي. تحوّل دراماتيكي، يفوق كل تصوّر… وربما المصداقية بالنسبة للبعض.
فهل نشهد على رجلٍ قرّر تغيير قناعاته بالفعل؟ أم أنّه يعتمد استراتيجيةً مقنعةً تضمن استدامة نهج سابق، بسردية منمّقة؟ الأحداث على الأرض تفتح الأبواب على مصراعيها أمام التساؤلات: فهل تتغير السلطة حقًا، أم تستبدل بقناع أكثر بريقًا؟ الأحداث الأخيرة تذكّر بأنّ أقنعة السلطة قد تُخفي ولاءات قديمة مستعرة تحت الرماد.
ولا يخفى على أحد أن الجولاني كان على مدى عقدٍ تقريبًا، من أكثر وجوه الحرب السورية إثارةً للرعب… وهو خريج مدارس الجهاد في العراق، ومؤسّس جبهة النصرة عام 2012، وهو الذي خاض حربًا لا هوادة فيها ضد نظام الأسد. ومن ثمّ، أعلن في العام 2016، القطيعة مع القاعدة وطوّب جماعته “فتح الشام”، ثم “هيئة تحرير الشام”، مُتبنّيًا خطابًا براغماتيًا محليًا، بعيدًا في الظاهر، عن الجهادية العابرة للحدود.
وفي تلك الفترة بالتحديد، أبصر أحمد الشرع السياسي النور: رجل يتمتع بالدهاء… بارع في المناورة ومنفتح على تركيا وقطر وأقرب – كما يهمس البعض – إلى دوائر الاستخبارات وخفايا النظام السوري القديم.
وقدّم الشرع نفسه منذ فرار بشار الأسد، كوجه توافقي لمرحلة انتقالية في سوريا… وأغدق بالوعود بالاستقرار وتغنّى بوحدة البلاد وأكد أنّ صفحة السلفيّة المسلحة قد قُلبت. ولكن عوضًا عن أن تتّضح الصورة، ازدادت قتامةً. وفي ربيع العام الماضي، اجتاحت جماعات مسلّحة قرًى ومدنًا علويةً ومسيحيةً على الساحل السوري.
وعلى الرَّغم من أنّ هويات المهاجمين لم تُعرف قطّ، ركّزت الشهادات على مجازر وتكتيكات عصابات وقيادات مرتبطة بجبهة النصرة القديمة. الحكومة ندّدت في العلن… من دون أن تحرّك ساكنًا على الأرض. لم تتبنَّ أي جهة الانتهاكات ولم تُسجّل أي اعتقالات أو تحقيقات.
وها هو السيناريو نفسه يتكرّر اليوم في الجنوب الغربي، وتحديدًا في مناطق الدروز. كلّ الخيوط تقود إلى شبكاتٍ مرتبطةٍ بالشرع، وبعضها يلامس أوساط الحكم العليا.
فما الغاية من كل ذلك؟ يرى البعض أنّ ما يحصل سياسة ضغط ممنهجة لإضعاف الأقليات سياسيًا أو دفعها لتقديم تنازلات جغرافية. ويحذّر آخرون من تطهيرٍ مجتمعيّ تدريجيّ يتخفّى وراء دخان الفوضى العسكرية. والبعض الآخر يؤمن بأنّ الشرع صادق، لكنّه فقد السيطرة على الميليشيات التي كانت تُدين له بالولاء ذات يوم.
أمّا في لبنان، يُعتمد نهج حذر في مراقبة هذه التحوّلات، وهو النهج نفسه الذي اعتمد إزاء تسلّط عائلة الأسد وما جرّته على البلد من دمار واغتيالات ونفاق وفساد. ولكن علامات استفهام جدّية تُطرح حول اختراقٍ سياسيّ وعسكريّ وشيكٍ بوجود أكثر من مليونين ونصف مليون سوري على الأراضي اللبنانية. وقد ظهرت شبكات مجتمعية منظّمة بالفعل في الشمال وفي البقاع وفي بعض أحياء بيروت… ولا يعرف أحد عديدها الفعلي، ولا حجم السلاح المنتشر في بعض المخيمات. ويُعزى ذلك لتقاعس الحكومات المتعاقبة وضعف أجهزة الدولة. أضف إلى ذلك ألّا أحد يمتلك أدنى فكرةً عن الصورة الحقيقيّة أو عن عديد الأسلحة في بعض مخيمات “النازحين”.
فهل هناك طابور خامس ينتظر الضوء الأخضر في لبنان؟ تطرح بعض التقارير هذا الاحتمال بجدّية.
وفي هذا السياق، يجد حزب الله نفسه أمام فرصة ذهبية… وها هي الميليشيا الموالية لإيران تروّج لروايةٍ جديدةٍ: يجب الاحتفاظ بالسلاح ليس لمقاومة إسرائيل طبعًا، بل لحماية “الأقليات ولبنان” من “كتائب داعش الجديدة”. رواية جديدة من الروايات الجوفاء، لا تقل عبثيةً عن سرديّة “المقاومة” التي سقطت سريعًا في اختبار الحقيقة. لبنان، الذي أنهكته الأوهام العقائدية، لا يحتمل المزيد من السرديّات الملفّقة. لديه جيشه الوطني ووحده الجيش هو من يمتلك شرعية الحماية. بالتالي، على حزب الله أن يسلّم سلاحه للدولة، وإلّا سيساهم بدوره بتغذية أوهام الحالمين في دمشق بإحياء “بلاد الشام”.
في المشرق، التاريخ لا يُعيد نفسه… إنه يتلطّى وراء قناعٍ جديد…
كم صدق تاسيتوس حين قال إنّ “وجه السلطة قد يتغيّر، أما مخالبها فلا!”.
مواضيع ذات صلة :
![]() بن سلمان يبحث مع الشرع التطورات السورية ويشدد على رفض التدخلات | ![]() الشرع: لا نخشى الحرب لكننا اخترنا حماية الوطن | ![]() تهديدات ونفي: ملف الموقوفين السوريين يعود إلى الواجهة |