قطاع “النبيذ” تحت الضغط: كلفة مرتفعة وطلب متراجع!
استمراريّة قطاع “النبيذ” تتطلّب أكثر من مجرّد صمود الأفراد كمزارعين ومُنتجين، بل تحتاج إلى رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تدعم الصناعات الغذائية والزراعية كركنٍ أساسيّ في إعادة بناء الاقتصاد اللبناني.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
يواجه قطاع “النبيذ” في لبنان خلال العام 2025 واحدةً من أصعب مراحله منذ عقود. فبيْن انكماش الاستهلاك المحلي وتقلّص الطلب في الأسواق الأوروبية، يرزح المُنتجون تحت وطأة تحدّياتٍ ماليةٍ وإنتاجيةٍ وتسويقيةٍ تُهدّد استمرارية هذا القطاع الحيوي الذي لطالما شكّل واجهة لبنان الزراعية والثقافية في الخارج.
ولطالما ارتبط النبيذ اللبناني بأسلوب حياة راقٍ، ونمط استهلاكٍ يعكس انفتاحًا ثقافيًا وذوقًا مُتجذّرًا في التراث. إلّا أنّ الأزمة الاقتصادية التي بدأت أواخر عام 2019، وما تبعها من انهيار الليرة اللبنانية وتراجع القدرة الشرائية، حوّلت هذا المنتج إلى سلعةٍ نادرةٍ في سلال المستهلكين.
وباتت زجاجة النبيذ، التي كانت تُزيّن موائد اللبنانيين، مستثناة من أولوياتهم، ما دفع الشركات إلى خفض الأسعار في محاولةٍ للحفاظ على استمرارية التوزيع، لكن حتّى هذه الخطوة لم تكن كافيةً لتثبيت الاستهلاك.
في هذا السياق، يوضح رئيس “المعهد الوطني للكرمة والنبيذ” و”رئيس مجلس إدارة شاتو كسارة” ظافر الشاوي لموقع “هنا لبنان” أنّ الأزمة فرضت واقعًا قاسيًا على الجميع، قائلًا: “منذ بداية الانهيار الاقتصادي، تراجع استهلاك النبيذ في المنازل بشكلٍ كبيرٍ. اضطررنا لخفض الأسعار، لكن حتّى بالدولار، لم نعدْ إلى مستويات ما قبل 2019”.
ويشرح الشاوي أنّ “المشكلة لا تتعلّق فقط بالسوق، بل أيضًا بتكلفة الإنتاج. مضيفًا: “نستورد غالبية مستلزمات التصنيع مثل الأبيج، النينة، اليبل، البوشون، والكبسولات، إلى جانب موادّ أخرى لا يمكن الاستغناء عنها. وبالتّالي، الكلفة ارتفعت بشدّةٍ، ولم نعد نحقّق التوازن المطلوب”.
التصدير لا يوازي الطموحات
في ظلّ الانكماش المحلي، راهن الكثير من المنتجين اللبنانيين على التصدير، خاصةً إلى الأسواق الأوروبية التي لطالما احتضنت النبيذ اللبناني بجودةٍ عاليةٍ وتقديرٍ ثقافيّ. إلّا أنّ الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا منذ منتصف 2023، والتي تضاعفت بفعل التضخّم وأسعار الطاقة، قلّصت من قدرة المستهلك الأوروبي أيضًا.
ويقول الشاوي: “التصدير اليوم لم يعد باباً للربح، بل وسيلة للحفاظ على اسم لبنان في الأسواق الدولية. الأسعار في الخارج لا تُحدَّد (تحدد) كما نشتهي، وهناك منافسة حادة جداً من الدول الكبرى. أوروبا تمرّ بأزمة، والمستهلك هناك يشتري أقل مما كان، تماماً كما يحدث عندنا”.
غياب الدعم الرسمي والمعطيات الدقيقة
ومن أكبر التحدّيات التي تواجه القطاع اليوم، هو غياب البيانات الرسمية والإحصاءات الدقيقة حول حجم الاستهلاك والتصدير، ما يُصعِّب رسم أي سياسة طويلة الأمد أو دراسة الجدوى الحقيقية للاستمرار.
ومع تفاقم الأزمة، تقلّص أيضًا دور الجهات الرسمية التي كانت تشكّل في الماضي داعمًا أساسيًا للصناعيين والمُنتجين في المحافل الدولية، بحسب الشاوي.
ويقول: “وزارة الزراعة كانت تساعدنا في المعارض بالخارج، لكن اليوم نظرًا للظروف، أصبح الموضوع غير ممكن. نشارك كمجموعةٍ في جناحٍ واحدٍ، بأقل الإمكانات، في معارض كبرى مثل بروين في ألمانيا، وإين باريس في فرنسا. ومع ذلك، لا نتوقف”.
الترويج المحلّي لإنعاش الأمل
ويتابع: “على الرَّغم من كل هذه المصاعب، لم تتوقّف الجهود المبذولة لتنشيط السوق المحلية ولو بوسائل محدودةٍ. فبالتعاون مع بعض البلديات والمؤسسات، يتمّ تنظيم أسواقٍ موسميةٍ ومهرجانات تذوّق في مدنٍ مختلفةٍ”.
ويشير إلى “جهودٍ كبيرةٍ يقومون بها من أجل تنظيم أيام تسويق خلال الصيف في مدن عدّة لبنانية. هذه الفعّاليات مهمة، خاصّةً مع قدوم المغتربين والسياح. نحن نراهن على موسم الصيف ليحمل جرعة دعم جديدة”.
ويضيف بتفاؤلٍ مشوبٍ بالحذر: “نحتاج إلى الاستقرار والأمن، وهذا أوّل ما يجب أن يتحقّق. أما الباقي، فنحن نتكفّل به كمزارعين ومنتجين”.
على الرَّغم من السّواد الاقتصادي، يبقى النبيذ اللبناني عنوانًا لثقافة الإنتاج الزراعي المُستدام، ورمزًا من رموز الهوية اللبنانية المتجذّرة منذ آلاف السنين. ومع ذلك، فإنّ استمرارية هذا القطاع تتطلّب أكثر من مجرّد صمود الأفراد، بل تحتاج إلى رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تدعم الصناعات الغذائية والزراعية كركنٍ أساسيّ في إعادة بناء الاقتصاد اللبناني.
في نهاية المطاف، يُدرك أهل القطاع أنّ الحفاظ على وجود النبيذ اللبناني في الأسواق المحلية والخارجية هو معركة طويلة النفس، معركة لا تنجح فقط بالإرادة، بل بالدعم والتخطيط والاحترافية.
مواضيع مماثلة للكاتب:
 مافيات المولّدات تخنق بيروت: اشتراك 5 أمبير بـ 270 دولارًا! |  الهيئة المصرفية العليا تبصر النور… والإصلاح ينتظر قانون الفجوة |  الضغط على “الحزب”: تجفيف مالي شامل يبدأ من مطار بيروت |
