بين “باراك” و”قاسم”: لا دولةَ ولا قرارَ

الطرح الأميركي اليوم ليس جديدًا، بل يتقاطع تمامًا مع البيان الثلاثي الصادر عن وزراء خارجيّة الولايات المتّحدة وفرنسا والسعوديّة في 21 أيلول 2022، الذي دعا بعد انتخاب رئيس قادر على توحيد اللبنانيين وتشكيل حكومة، إلى تنفيذ قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 و2650، والالتزام الكامل باتفاق الطائف باعتباره الضامن الوحيد للوحدة الوطنيّة والسّلم الأهلي.
كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:
إذا كان الشغور المؤسساتي وتخبّط المسؤولين في تأمين الحدّ الأدنى من انتظام عمل المؤسسات قد فرض على الدول المعنيّة بمصالحها إيفاد من يسعى إلى التوفيق بين القوى اللبنانيّة، فإنّ المستغرَب أن يبقى تقرير مصير اللبنانيين معلّقًا على حبال الوساطات الخارجيّة، على الرغم من مرور أشهر على “إيحاءاتٍ” بولادة عهد رئاسي وديناميّة حكوميّة جديدة.
طويلة هي قائمة الموفدين الدوليّين إلى بيروت منذ نهاية الحرب الأهليّة، ومع كل جولة موفدٍ، كان المَخرَج الوحيد من الأزمة اللبنانيّة تسليم القرار إلى جهة خارجيّة تضبط “الهواجس الدوليّة” على حساب مصالح اللبنانيين. لكن اليوم، ومع رفض “حزب الله” مطالب الموفد الأميركي توماس باراك، بعد رفضه المتكرّر لمبادراتٍ عربيّةٍ وسعوديّةٍ، يبدو أن لبنان يتّجه أكثر فأكثر نحو فقدان قراره السيادي، ما يهدّد بجعله مُلحقًا لا مُقرّرًا في خريطة إعادة توزيع النفوذ والحدود في المنطقة. وهو خطر يتجاوز الحسابات المحليّة، ويضع الكِيان اللبناني أمام احتمال التمدّد الإسرائيلي غير المعلَن تحت عنوان “ملء الفراغ”، بحجّة ضبط الأمن ومنع الفوضى على حدوده الشماليّة.
منذ بزوغ فجر “الجمهوريّة الثانية”، ولبنان يعاني عجزًا مُزمنًا عن إنتاج تسويات داخليّة مستقلّة. فبعد عام 1990، دخل في مرحلة وصاية سوريّة، أعقبتها سنوات من تمدّد النفوذ الإيراني، وتحوّل “حزب الله” خلالها إلى لاعب داخلي وخارجي يُمسك بمفاصل القرار الاستراتيجي. ما خوّل المسؤولين الإيرانيّين التباهي بسيطرتهم على أربع عواصم عربيّة، بينها بيروت، بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا عام 2016.
اليوم، ومع اقتراب المهلة التي يعمل الموفد الأميركي توماس باراك على تثبيتها لحصر السلاح بيد الدولة وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانيّة، خرج الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، ليكرّس رفض الحزب لهذا المسار، مُعلنًا أنّ السلاح “لن يُسلَّم” في ظلّ ما وصفه بـ”الخطر الوجودي” على لبنان. لكن ما يتجاهله قاسم، أن ما يحمله باراك لا يخرج عن إطار روحيّة اتفاق الطائف، ولا يتعدّى جوهر التفاهمات الإقليميّة والدوليّة التي لطالما ضمنت الحدّ الأدنى من الاستقرار للبنان.
فالطرح الأميركي اليوم ليس جديدًا. بل يتقاطع تمامًا مع البيان الثلاثي الصادر عن وزراء خارجيّة الولايات المتّحدة وفرنسا والسعوديّة في 21 أيلول 2022، على هامش اجتماعات الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، والذي دعا بعد انتخاب رئيس قادر على توحيد اللبنانيين وتشكيل حكومة، إلى تنفيذ قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 و2650، والالتزام الكامل باتفاق الطائف باعتباره الضامن الوحيد للوحدة الوطنيّة والسّلم الأهلي.
وقد سبقت ذلك “الورقة العربيّة” التي حملها الموفد الكويتي إلى بيروت باسم دول مجلس التعاون الخليجي مطلع عام 2022، والتي شدّدت على البنود نفسها، مضيفةً مطلبًا مباشرًا بوقف تدخّل “حزب الله” في الشؤون العربيّة، وضبط الحدود والتهريب، والامتناع عن تحويل لبنان إلى منصّة إقليميّة لأجندات لا تمتّ بصلة لمصالحه الوطنيّة.
المفارقة أن “حزب الله” لم يُبدِ موقفًا سلبيًا حيال جميع الموفدين. بل على العكس، سهّل مهمّة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، وأطماع فرنسا الاستثماريّة، وتجاوب مع الموفد الأميركي آموس هوكستين في ملف ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل، حين توافقت التفاهمات مع مصلحة الحزب ومصلحة المحور الذي ينتمي إليه. لكنه، في المقابل، يُبدي تصلّبًا حيال كل مبادرة تدعو إلى احتكار الدولة للسلاح، أو تطالب بإنهاء حالة الازدواجيّة بين الدولة والدويلة.
ما يزعج “حزب الله” ليس شخصيّة الموفدين ولا هويّة الدول الراعية، بل جوهر الطروحات التي تسعى إلى بناء دولةٍ قادرةٍ وموحّدةٍ. دولة لا مكان فيها لقرار أمني أو عسكري خارج سلطتها. دولة تسعى إلى الاستقرار والتقدّم بسلام، وترفض مشاريع الفوضى والتدمير والتبعيّة.
في ظلّ هذا التعطيل المُمنهج، تزداد أهميّة العصا الأميركيّة التي بدأت تلوّح بعقوبات وتضييق دولي إذا لم يُنجَز الإصلاح السياسي والأمني المطلوب. ووفق المتابعين، فإنّ “حزب الله” بات أمام مفترق حاسم: إمّا الانخراط في تسوية تحفظ ما تبقّى من دور لبنان، أو المُضيّ في المكابرة التي قد تفتح الباب أمام مشاريع إسرائيليّة تبريريّة لـ”ملء الفراغ” وتنظيف المنطقة من الأذرع الإيرانيّة، بما يُحوّل لبنان إلى ساحةٍ هامشيّةٍ خاضعةٍ لمعادلات خارجيّة، لا وزن لها في موازين القرار الإقليمي ومشاريع التطوّر والسلام.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() بين “بلاد الشام” ولبنان الدولة: أي خيار تبقى؟ | ![]() خارطة الطريق الأميركية: اختبار نوايا الداخل.. سرديّة وسلاح بلا دور! | ![]() مسؤولية الدولة: امتحان حاسم لشرعية السلاح في لبنان |