بين التلوّث والجفاف… نهر اللّيطاني يحتضر والحكومة تتحرّك

منسوب المياه في نهر اللّيطاني انخفض إلى أدنى مستوياته، في ظلّ ما وصفه خبراء بأسوأ موجة جفافٍ تشهدها البلاد على الإطلاق، ما يهدّد الزّراعة وإنتاج الكهرباء وإمداد المنازل بالمياه.
كتب إيلي صرّوف لـ”هنا لبنان”:
بألمٍ صامتٍ، يتلقّى نهر اللّيطاني الطّلقات الصّناعيّة والجرثوميّة والمناخيّة والكيميائيّة المتتالية، متسلّحًا بأمل التعافي ليستمرَّ بممارسة دوره في ريّ ظمأ المزروعات والنّاس، والمساهَمة في توليد الطّاقة الكهرومائيّة وفي التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة. غير أنّ شريان الحياة الرّئيسي هذا، الّذي يُجاهد بدوره للبقاء حيًّا، بات يُشكّل خطرًا على صحة اللّبنانيّين واقتصادهم.
مؤشّرات تلوّث نهر اللّيطاني ليست حديثةً، بل بدأت بالظّهور بوضوحٍ بعد نهاية الحرب اللّبنانيّة عام 1990، جرّاء دمار البنى التحتيّة وتوسّع الأنشطة العمرانيّة العشوائيّة وغير المنظّمة، الّتي تؤثّر سلبًا في تلوّث النّهر وجريانه وتوازنه البيئي. هذا عدا عن تزايد عدد المصانع والمعامل (دبّاغات، مسالخ، مصانع أجبان وألبان…)، الّتي حوّلت النّهر الأطول في لبنان إلى مكبٍّ لنفاياتها ومُخلّفاتها الكيميائيّة والصّناعيّة، الّتي تُرمى من دون معالجة، ما يزيد من نسبة المواد السّامّة والمعادن الصّلبة في المياه، ويساهم في نموٍّ مفرطٍ للطّحالب والنّباتات؛ الّتي تنعكس بدورها سلبًا على جودة المياه وتهدّد التنوّع البيولوجي.
في هذا السّياق، تكشف “المصلحة الوطنيّة لنهر اللّيطاني”، أنّ “نحو 40% من المؤسّسات الصّناعيّة في حوض النّهر، لا تُعالِج الصّرف الصّناعي النّاتج عنها”، وأنّ “كميّة الصّرف غير المعالَج الّتي تُرمى في النّهر سنويًّا، هي حوالي 4 ملايين متر مُكعّب”.
مشكلةٌ أخرى أُضيفت إلى قائمة مصادر التلوّث، لا بل تصدّرتها، هي الصّرف الصّحي. فـ69 بلدة في البقاع الشّمالي والأوسط والغربي، تُلقي الصّرف الصّحي مباشرةً في أراضٍ مكشوفةٍ و/أو في النّهر من دون أي معالجة أوّليّة، بمعدّل نحو 46 مليون متر مُكعّب سنويًّا؛ في ظلّ غياب محطّات التكرير أو تعطّلها.
كما تسبّبت مخيّمات النّازحين السّوريّين العشوائيّة المنتشرة على طول النّهر، بتحويل الأخير إلى “مجرورٍ” للصّرف الصّحي، إذ تقوم مُعظمها بتحويل النّفايات السّائلة والصّلبة النّاتجة عنها والصّرف الصّحي مباشرةً إلى مجرى اللّيطاني وروافده، كما إلى أقنية مشاريع الرّيّ التّابعة للمصلحة. وتقدَّر كميّات المياه المبتذلة النّاجمة عن نحو 68 ألف نازح سوري في حوض النّهر الأعلى، بأكثر من مليونَي متر مكعّب سنويًّا (بحسب أرقام المصلحة).
كلّ ذلك يؤثّر في نوعيّة المياه ويؤدّي إلى تلوّث التربة وتدهور جودة الهواء، كما يهدّد صحة السّكان والنّازحين، لا سيّما أولئك الّذين يعتمدون على النّهر في الرّيّ أو الاستهلاك اليومي، جرّاء انتشار البكتيريا والفيروسات والأوبئة والأمراض المُعدية والمشاكل الصّحيّة المزمنة…
التلوّث والجفاف ينقضّان على اللّيطاني
وعن “الحالة الصّحيّة” لنهر اللّيطاني، اليوم، يوضح مدير عام “المصلحة الوطنيّة لنهر اللّيطاني” الدّكتور سامي علوية، في حديث لـ”هنا لبنان”، أنّه “يجب أوّلًا الفصل بين الحوض الأعلى للنّهر الممتدّ من منبع اللّيطاني في أعالي بعلبك وصولًا إلى سدّ القرعون، والحوض الأدنى الّذي يبدأ من أسفل السّدّ وينتهي عند مصبّ النّهر في القاسمية”.
ويفصّل أنّه “بالنّسبة للحوض الأدنى، فمنابعه وينابيعه مُستقلّة تمامًا عن الحوض الأعلى، وهو لا يواجِه حاليًّا مشكلة الصّرف الصّناعي، إلّا ذلك الصّادر عن بعض معاصر الزّيتون موسميًّا. وهذا يُشكّل تحدّيًا لنا ونحاول ضبطه بالتعاون مع وزارة الصّناعة، ونجحنا بشكل كبير. وهذا الحوض لا يواجه أيضًا مشكلة تدفّقات الصّرف الصّحي، باستثناء بعض الخروقات البيئيّة الّتي نعمل على التصدّي لها”، مؤكّدًا أنّ “المياه فيه حاليًّا صالحة للرّيّ، وتُستثمر في مشروع ريّ القاسمية”.
العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان لم يستثنِ البشر ولا الحجر ولا حتى البيئة، الّتي قُصفت بالفوسفور الأبيض المحرَّم دوليًّا وأُحرقت عمدًا، في إطار سياسة الأرض المحروقة الخبيثة الّتي تمارسها القوّات الإسرائيليّة.
ويذكر علويّة أنّه “في فترة العدوان الإسرائيلي الّتي بدأت في تشرين الأوّل 2023، وصولًا إلى وقف إطلاق النّار في تشرين الثّاني 2024، أخذنا سلسلة عيّنات من المياه لنتأكّد من مدى تأثّر مجرى نهر اللّيطاني ومياهه بالأسلحة والمقذوفات المُستخدَمة. وقد تبيّن أنّ هناك ارتفاعًا بمستويات الفوسفات والفوسفور، الّتي تضاعفت بأكثر من 20 مرّة عمّا كانت عليه في العام السّابق، غير أنّها بقيت ضمن حدود المعايير المسموح بها للرّيّ”.
ويشير إلى أنّه “كان يُعوَّل على أن تساهم المتساقطات وجريان النّهر في التخفيف من النِّسب المذكورة، وبالفعل سُجِّل انخفاضٌ بمعدّلات الفوسفور وغيره من العناصر الكيميائيّة، لكنّها لم تصل إلى المعدّل الطّبيعي، نظرًا إلى أنّ نسبة المتساقطات هذا العام كانت ضئيلة نسبيًّا”.
في هذا السّياق، أفادت وكالة “رويترز”، في 15 تمّوز 2025، بأنّ “منسوب المياه في نهر اللّيطاني انخفض إلى أدنى مستوياته، في ظلّ ما وصفه خبراء بأسوأ موجة جفافٍ تشهدها البلاد على الإطلاق، ما يهدّد الزّراعة وإنتاج الكهرباء وإمداد المنازل بالمياه”.
ويلفت علوية إلى أنّ “الحوض الأعلى لنهر اللّيطاني يواجه كارثةً بسبب مياه الصّرف الصّحي. ففي البقاع الشّمالي والأوسط والغربي، هناك شبه غياب لمنظومات الصّرف، ولا توجد محطّات تكرير أو معالجة للمياه، ويتمّ تصريف “المجارير” في النّهر مباشرةً”، مُبيّنًا أنّه “تُضاف إلى ذلك مشكلة التلوّث الصّناعي النّاتج عن حوالي 200 مؤسّسة صناعيّة كبرى على ضفاف النّهر. وقد تمكنّا من ضبط 80 بالمئة من الصّرف الصّناعي عبر القضاء ووزارة الصّناعة، ونجبر المصانع الّتي أنشأت محطّات تكرير على أن تشغّلها”.
ويشدّد على أنّ “التحدّي الأساسي لم يعد الصّرف الصّناعي، بل الصّرف الصّحي، لا سيمّا في ظلّ مشكلة النّزوح السّوري على ضفاف النّهر، فضلًا عن وجود مكبّات للنّفايات الصّلبة، نتيجة الأزمة الاقتصاديّة الّتي أدّت إلى توقّف معامل فرز النّفايات في جب جنين وغيرها عن العمل”، موضحًا أنّه “بوشر علاج هذه المشكلة جزئيًّا، من خلال إعادة تشغيل معامل الفرز وتأمين التمويل اللّازم لها”.
لا تقف مصادر التلوّث عند هذا الحدّ، إذ يضيف مدير عام المصلحة “أنّنا نواجه أيضًا مشكلة التلوّث النّاتج عن التسرّب الزّراعي. إذ يتمّ في معظم الزّراعات الإكثار من استخدام الأسمدة والمبيدات، الّتي تتحوّل إلى نيترات وآزوت وتتسرّب إلى التربة ومنها إلى المياه، فتشكّل تهديدًا لبيئة النّهر”.
الأطبّاء الحكوميّون في المرصاد
واقع التلوّث في نهر اللّيطاني استدعى تدخّلًا حكوميًّا عاجلًا، في إطار المحاولات الحثيثة للتخفيف من آلامه وإطالة أمد حياته. لهذه الغاية، ترأس رئيس الحكومة نواف سلام اجتماعَيْن للهيئة الوطنيّة للمياه في 21 تمّوز الماضي و6 آب الحالي، بمشاركة عددٍ من الوزراء والمعنيّين، لمتابعة “مشكلة التلوّث المزمن في نهر اللّيطاني وبحيرة القرعون، في ظلّ المؤشّرات البيئيّة الخطيرة النّاتجة عن الجفاف غير المسبوق، وتفاقم مصادر التلوّث الصّناعي والزّراعي والصّرف الصّحي”.
وخلص الاجتماع الأخير إلى “الطّلب إلى الجهات المَعنيّة بالتنسيق مع وزارة الدّاخليّة والبلديّات، إزالة المُخالفات والتعديّات على مصادر المياه وعلى الشّبكات وقمع المُخالفين”، كما “الطّلب إلى الوزارات المعنيّة الانتهاء من دراسة وإنجاز مشاريع النّصوص القانونيّة التطبيقيّة لقانون المياه تمهيدًا لإقرارها وفقًا للأصول”.
في هذا الإطار، يركّز علويّة -المشارك في الاجتماعات الوزاريّة- على أنّ “ما يقوم به سلام في هذا الإطار استثنائي، وكلّفني بتحديد المطلوب من وزارات البيئة والصّناعة والزّراعة والطّاقة والدّاخليّة ومجلس الإنماء والإعمار والمجلس الوطني للبحوث العلميّة والبلديّات وكلّ الشّركاء الآخرين. وقد توجّهت إليه بكتابٍ يتضمّن اللّازم، ويُفترض صدور تعاميم إلى الجهات المعنيّة بالأمور المطلوبة منها”.
ويشدّد على أنّ “الحلّ المستدام لمشكلة تلوّث نهر اللّيطاني هو حُسن إدارة الموارد المائيّة، وأن يكون لدينا مخطّط توجيهي عام للصّرف الصّحي يضمن لامركزيّة المعالجة، وتنفيذ المشاريع الملحوظة وتشغيل محطّات التكرير”.
ويشير إلى “أنّنا هذا العام نواجه تحدّي شحّ المياه. عادةً كميّة المياه الّتي تصل إلى بحيرة القرعون تقدَّر بـ350 مليون متر مكعّب، أمّا هذا العام فلم يصل سوى 45 مليون متر مكعّب”، لافتًا إلى أنّ “مخزون البحيرة قليل جدًّا، وتركّزت الملوثّات فيها، وليس باستطاعتنا تشغيل معامل الطّاقة الكهرومائيّة”.
ويعلن علويّة “أنّنا نعمل مع وزارة الدّاخليّة والبلديّات على إخلاء مخيّمات النّازحين المتبقّية على ضفاف اللّيطاني. لكن هناك بلديّات طلبت من الوزارة التريّث بتنفيذ الإخلاءات إلى ما بعد انتهاء الموسم الزّراعي، ما يؤكّد أنّ شريحةً واسعةً من النّازحين يعملون في الزّراعة، وتسقط عنهم بالتالي صفة النّازح”.
صور نهر اللّيطاني كفيلة بأن تعكس حجم معاناته ومرضه. فلَون المياه الأخضر والتراجع الحادّ في منسوبها والنّفايات الّتي تطفو على سطحها، تؤكّد تحوّل اللّيطاني من شريانٍ للحياة إلى مصدرٍ للموت، في ظلّ التمييع في تطبيق القوانين وتقاذف المسؤوليّات والتواطؤ على حساب صحّة الأرض والإنسان. فهل ستتمكّن الحكومة من إحياء النّهر وتحصينه، أم أنّ اجتماعاتها ستقتصر على الصّور والبيانات من دون إجراءات عمليّة فوريّة وفاعلة؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() أُربطوا الأحزمة… هل تُحلّق وعود مطار القليعات في سماء التنفيذ؟ | ![]() بين أتون الحرب وآمال التّعافي… “بيوت الضّيافة” تنعش القطاع السّياحي | ![]() القطاع العقاري اللّبناني: من الرّكود إلى استعادة العافية المشروطة |