إيلي حنّا.. من “فنجان قهوة” إلى فضح دولة عاجزة حتّى عن “الفهم”!

قرّر إيلي تأسيس مقهى يكون مساحة آمنة ومريحة للأشخاص الصمّ، وفي الوقت نفسه، أداة توعية للآخرين، إذ يسعى إيلي إلى خلق بيئة تواصل حقيقيّة، حيثُ يتعلم الجميع لغة الإشارة ويتفاعلون مع ثقافة مختلفة عنهم ولكنّها ليست أقل شأناً
كتبت كارين القسيس لـ”هنا لبنان”:
لم يكن الصمت يوماً دليلاً على ضعف أو عائق، بل سلاحاً بيد من يعرف كيف يحوله إلى قوة حقيقيّة، هذا بالضبط ما جسّده إيلي حنّا، الشاب اللبناني الأصم، الذي تخطّى حالته السمعيّة ليُصبح قادراً على التعبير بطلاقة توازي أي متحدث آخر، إذ لم يسمح حتّى لاختلافه السمعي أن يضع حدوداً لطموحه أو أن يفرّقه عن محيطه، بل استثمره كنقطة انطلاق لتغيير النظرة المجتمعية السائدة.
لم تَنبع ثقة إيلي بنفسه من فراغ، بل من دعم عائلي متين ومتفرد، فمنذ ولادته، اتخذت عائلته قراراً راسخاً بعدم اعتبار الصمت قيداً، بل مجرّد اختلاف يستحق المتابعة، وبفضل تشجيعهم المستمر، التحق إيلي منذ صغر سنه بمؤسسات تعليميّة متخصصة، حيثُ نشأ في بيئة تحتضنه ولا تستبعده، هذا الدعم مكّنه من إتقان الكلام بطلاقة والمشاركة في محيطه بثقة بلغته الخاصة، من دون أن يُهمل أو يُقصى.
لكن هذه التجربة الشخصيّة كانت مدخلاً لتجربة أكبر، فكلما خرج إيلي مع أصدقائه من مجتمع الصمّ، اصطدم بواقعٍ أكثر قسوة من المشكلة نفسها، “غياب الوعي المجتمعي، بل أحياناً غياب الحد الأدنى من الاستعداد للتفهم”، ففي المطاعم، مثلاً، كان أصدقاؤه يواجهون صعوبات في إيصال طلباتهم إلى العاملين، ما يؤدي إلى مواقف مزعجة ومحبطة في الكثير من الأحيان، هذه التفاصيل الصغيرة، كانت تكشف فجوة كبيرة: عالم لا يفهم لغة الإشارة، ولا يكلّف نفسه حتّى أن يتعلّمها.
من هنا، وبدعم مباشر من عائلته، وخصوصاً شقيقه جان بول، قرّر إيلي تأسيس مقهى يكون مساحة آمنة ومريحة للأشخاص الصمّ، وفي الوقت نفسه، أداة توعية للأشخاص الذين لا يعانون من هذه المشكلة، وبالتالي لم يكن الهدف تجارياً بقدر ما كان إنسانياً ومجتمعياً، إذ يسعى إيلي إلى خلق بيئة تواصل حقيقيّة، حيثُ يتعلم الزبائن السامعون لغة الإشارة ويتفاعلون مع ثقافة مختلفة عنهم ولكنّها ليست أقل شأناً.
وبمجرّد دخول الزبون إلى المقهى، يُلاحظ أمراً مختلفاً، كل غرض في المكان يحمل رسماً توضيحياً بلغة الإشارة، هذه المبادرة البسيطة والذكيّة، تفتح المجال أمام الزائرين لتعلّم مفردات جديدة، وتحثّهم على التواصل مع فريق عمل من الصم من دون خوف أو تردّد.
لكن هذا المشروع الصغير، يحمل في طيّاته قضيّة وطنيّة أعمق، فبالنسبة لإيلي، لغة الإشارة ليست ترفاً، بل ضرورة، ولا يمكن قبول أن يدخل أصمّ إلى مستشفى في عصرنا هذا، ولا يجد من يشرح له ما يشعر به، أو أن يُجبر على إحضار مرافق يترجم له في الدوائر الرسميّة، لأنّ الدولة لم تجهّز كوادرها لفهم لغته.
كما يؤكّد إيلي، أنّ الشخص الأصمّ لا يعاني من مشكلة عقليّة، بل ببساطة يتحدث لغة أخرى، وهذا ما يجب أن يتم الاعتراف به رسمياً، عبر دمج لغة الإشارة في الإدارات العامة، والبلديات، والمستشفيات، وكل مكان يُفترض أن يكون فيه الإنسان مُستَقبلاً.
ولأنّ الوعي لا يُفرض، بل يُكتسَب، تحوّل المقهى إلى مساحة تعليمية أيضاً، ففي نهاية كل أسبوع، تُنظّم فيه دورات لتعليم لغة الإشارة، بإشراف أساتذة محترفين، والأهم أنّ الفكرة ليست فقط تعليم اليد كيف تتحرّك، بل تعليم القلب كيف يتواصل، وبالتالي لم يكن الهدف أن يُعلَّم اللبنانيون “لغة الإشارة”، بل أن تُكسر هذه الفجوة الخفية بين السامع والأصمّ، والتي لا تقوم على الاختلاف بل على الجهل.
نجاح هذه المبادرة دفع “هنا لبنان” إلى التحرّك، حيثُ تواصلنا مع وزارة الشؤون الاجتماعيّة، التي أبدت اهتماماً جدّياً، مؤكدةً أنّ الأشهر المقبلة ستشهد تنسيقاً أكبر لدعم مبادرات مماثلة، لكن في المقابل، غاب وزير العمل محمد حيدر عن المشهد، رغم أنّ هذا الملف يقع ضمن صلب مسؤوليات وزارته، ووفق مصادر مراقبة، يبدو أنّ انشغالات الوزير في ملفات سياسيّة ضاغطة، لا سيما ملف “حصريّة السلاح”، شتّتت تركيزه عن قضايا اجتماعيّة أساسيّة، في وقت يحتاج فيه اللبنانيون إلى من يسمعهم…”كلهم”، بمن فيهم أولئك الذين لا يسمعون.
في المحصلة، إيلي حنّا لم يأتِ ليطلب مقعداً على طاولة الآخرين، بل صنع طاولته، وأراد أن يجلس الجميع حولها، ولم يسعَ إلى إثبات أنّه “قادر رغم الصمت”، بل أثبت أن الصمت ليس عجزاً بل لغة، لها مفرداتها، ومشاعرها، وكرامتها، ففي زمن تُقاس فيه الإنسانية بسرعة الردّ على الهاتف، اختار إيلي أن يعلّمنا كيف نصمت قليلاً…لنتواصل أكثر.
هذه ليست دعوة للتعاطف، بل للمراجعة، لأنّ العدالة ليست فقط أن نمنح من لا يسمع سمّاعة، بل أن نمنح من لا يريد أن يسمع ضميراً!
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() “الباش” في ذاكرة رفاقه… حكايات من القلب تُروى للمرة الأولى! | ![]() بالوثائق والحقائق…”هنا لبنان” يكشف الحقيقة المُغَيّبة عن لبنانيّة “حوش السيّد علي”! | ![]() “الحزب” يغتال براءة الأطفال بزراعة الكراهية في عقولهم…! |