وهم “الانتصارات”: خيارٌ ضائع أم انفجارٌ وشيك؟

إن التواطؤ مع “الحزب” لم يعد مجرد خطأ سياسي، بل مشاركة مباشرة في دفع لبنان نحو الخراب.. اللبنانيون يستحقون دولةً تحميهم لا تنظّم جنازاتهم. الخيار واضح: إما قيام دولة فاعلة تضع مصلحة شعبها أولًا، أو استمرار لبنان كساحة رسائل إيرانية–إسرائيلية
كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:
يعيش لبنان اليوم على وقع تحديات وجودية لا تقلُّ خطورة عمّا واجهَه في أحلك محطاته. بلدٌ مأزوم اقتصاديًا، “مفكك” سياسيًا، عاجز عن تحرير مؤسساته من ارتباطها العضوي بـ”الدولة العميقة”، يجد نفسه من جديد أمام معضلة سلاح “حزب الله” وفجور قادته. “حزب الله”، ومن خلفه إيران، يصرّان على إبقاء لبنان رهينة حسابات إقليمية، فيما اللبنانيون يدفعون الثمن أمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا… وعزلة دوليّة!.
من يراقب خطاب الشيخ نعيم قاسم، أمين عام “حزب الله”، يلمس بوضوح أن الحزب لم يتعلّم شيئًا من التجارب المريرة. يقول الشيخ بثقة: “لن نسمح بنزع السلاح وسنواجه مواجهة كربلائية”، ويؤكّد أن “نزع السلاح يعني نزع القوة تلبيةً لمطلب إسرائيل”. أطاح الشيخ نعيم بما لا يقبل الشكّ، بقرارات الحكومة. ليؤكّد أن خطابهم ليس لغة شريك في دولة، بل خطاب ميليشيا تقرر مصير شعب بأسره وتستقوي على مؤسسات، تعمّد إظهار عجزها، بل تواطؤها؛ وشرّع طريق التشكيك بقدرتها على الإنخراط في مشروع قيام الدولة بعد تبيان مساكنتها مع منطق يعتبر احتكار السلاح خيانة وطنية!.
تصاعد وتيرة مواقف “حزب الله” عبر أكثر من لسان داخل لبنان وخارجه فاقم الأزمة. رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف ذهب أبعد حين اعتبر أن “حزب الله اليوم أقوى من قبل”، وأن دعم طهران له جزءٌ من حماية الأمن القومي الإيراني. بكلامٍ أوضح، جزم أن لبنان بالنسبة إلى إيران ورقة متقدمة في صراعها مع إسرائيل والغرب، لا أكثر. وما يُقدّم على أنه “دفاع عن المقاومة” يتحوّل عمليًا إلى استثمار بدماء اللبنانيين ومقدراتهم في لعبة إقليمية، تتعمّد إيران خلالها رفع سقف المواجهة مع المجتمع الدولي عشية فرض حزمة جديدة من العقوبات عليها.
أما المهزلة الكبرى فتعُود إلى إصرار “حزب الله” على تقديم نفسه كحامٍ للسيادة، فيما هو يطيح بمفهومها من أساسه. السيادة تعني دولةً بجيشٍ واحد ومؤسسات قادرة، لا مشروعًا ميليشياويًا موازياً يفرض إيقاعه بالقوة. وما “غزوة الروشة” سوى تذكير صارخ بأن الحزب ماضٍ في نهجه الانقلابي على فكرة الدولة نفسها.
ومع تعمّد “حزب الله” إظهار نشوته بالتزامن مع إحياء الذكرى السنوية الأولى للسيدين الشهيدين ومحاولة الشيخ نعيم ملء فراغ الخطابات التي طبعت إطلالات السيد حسن نصرالله، إنهالت الرسائل الدولية التي بدورها لا تحتمل التأويل، والتي قد تصل إلى الإطاحة بمؤتمرات الدعم المزمع عقدها لإعادة الإعمار ودعم الجيش اللبناني.
كما أن حضور لبنان “الخجول” في نيويورك يتطلّب التوقف عنده، ويدفعنا إلى استحضار كلام الموفد الأميركي توم باراك في شهر تموز حين قال: “إذا لم يتحرّك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام من جديد”. كلام إستهجن يومها، واتضح أنه يمكن فهمه في سياق اهتمام الدول الكبرى بمشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع ودعم سوريا الجديدة في طريق التعافي. وعوض أن يكون لبنان مدخلاً لإعادة إعمار سوريا… قد يحصل العكسّ!.
وإذ يمكن وضع كلام باراك قبل ثلاثة أشهر في إطار تأكيد أن ما يُحاك للمنطقة لن يتوقّف عند “المحلية” اللبنانية سياسياً، عاد باراك ووضع الأمور في نصابها، مشيرًا إلى أن “إذا أراد اللبنانيون دولةً واحدةً وجيشًا واحدًا فعليهم نزع سلاح “حزب الله” ومنع نشوب حرب أهلية”.
مواقف توم باراك ليست نصيحة عابرة بل تحذير صريح؛ ترافق وإشارته إلى أن واشنطن ليست ضامنًا لأي اتفاق وقف إطلاق نار إذا بقي لبنان أسير السلاح غير الشرعي. تجاهل رسائل توم باراك لا يعني إلا إعادة إنتاج الكارثة، تمامًا كما تجاهلت قوى سياسية سابقًا الإنذارات الدولية والعربية فدفعت البلاد ثمنًا فادحًا جرّاء تعويم ميليشيا “حزب الله” وتمكينها من توريط لبنان في تداعيات مغامرة السنوار في 7 تشرين الأول 2023.
بعد “غزوة الروشة” وفجور قادة “حزب الله”، لم تعد المواقف الرمادية والخطابات الإنشائية تصلح. بل أضحى هناك حاجة إلى شجاعة سياسية تضع حدًا للتحايل على قرارات الحكومة، وإصرار رئيسها الدكتور نواف سلام على تطبيق قرار حصر السلاح بيد الدولة، وبلا مواربة، وإيقاف الصفقات التي تُدار في الكواليس لتأبيد وضعٍ شاذ ينهش ما تبقّى من الدولة. إن التواطؤ مع “حزب الله” لم يعد مجرد خطأ سياسي، بل مشاركة مباشرة في دفع لبنان نحو الخراب.
اللبنانيون يستحقون دولةً تحميهم لا تنظّم جنازاتهم. الخيار واضح: إما قيام دولة فاعلة تضع مصلحة شعبها أولًا، أو استمرار لبنان كساحة رسائل إيرانية–إسرائيلية. وفي زمن إعادة رسم مستقبل المنطقة، لا يحتمل لبنان ترف المساومة وتعويم الدويلة على حساب حزم الدولة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() حين يتكلم لبنان الدولة… تصمت دويلة السلاح! | ![]() السلام المفقود… هل يعيده “إعلان نيويورك”؟ | ![]() من يحمي اللبنانيين من فوضى التخوين؟! |