لبنان بين السيادة الرقمية والأمن الشامل: معادلة البقاء!


خاص 30 أيلول, 2025

حماية السيادة اللبنانية اليوم تعني أكثر من بسط سلطة الدولة على الأرض، إذ تشمل تعزيز الاستقلالية الرقمية، وبناء قدرات اقتصادية وصحية متينة، وإطلاق استراتيجية وطنية تدمج هذه المفاهيم الحديثة في صلب الأمن القومي.

كتب جو أندره رحال لـ”هنا لبنان”:

لم تعد السيادة تعني مجرّد السيطرة على الحدود، ولا الأمن يُخْتَصَرُ بالجيوش والدبابات. في عالم متداخل تحكمه التكنولوجيا والعولمة والأزمات العابرة للقارّات، تغيّرت قواعد اللعبة، وأُعيد تعريف هذَيْن المفهومَيْن بشكل جذري. فالدولة التي تمتلك أرضًا وجيشًا لكنها عاجزة عن حماية بياناتها أو تأمين غذائها أو مواجهة وباء، لم تعدْ سيادتها كاملة ولا أمنها مضمون.

السيادة التي ارتبطت طويلًا بالحقّ المطلق تحوّلت إلى مسؤولية. مبدأ “المسؤولية عن الحماية” منح المجتمع الدولي صلاحية التدخل عندما تفشل الدول في حماية شعوبها من الجرائم الكبرى، كما حدث في ليبيا عام 2011. ومع الثورة الرقمية، ظهرت السيادة الرقمية كساحة صراع جديدة، حيث تسعى الدول إلى فرض سيطرتها على البيانات ومراكز المعلومات في مواجهة هيمنة شركات التكنولوجيا العملاقة.
الاتحاد الأوروبي قدّم نموذج السيادة المشتركة عبر تقاسم الصلاحيات مع مؤسّسات فوق وطنية، فيما برزت السيادة البيئية كجزءٍ لا يتجزّأ من بقاء الدول في مواجهة التغيّر المناخي، بينما يعكس مفهوم “السيادة السيليكونية” صعود نفوذ شركات التكنولوجيا التي تُنازع الحكومات سلطتها على الفضاء الرقمي.

أما الأمن فلم يعد يقتصر على حماية الحدود، بل أصبح مرادفًا لحماية الإنسان في مختلف أبعاده. فالأمن الصحي ظهر بقوة مع جائحة كورونا التي أصابت الاقتصادات بالشلل أكثر من أي حرب تقليدية، والأمن الغذائي برز مع أزمة الحبوب بعد الحرب الأوكرانية ـ الروسية، والأمن المناخي صار واقعًا ملموسًا مع موجات التصحّر والفيضانات وحرائق الغابات، فيما تحوّلت الهجمات السيبرانية الأخيرة على البنى التحتية للطاقة والمطارات في أوروبا والولايات المتحدة إلى جبهة قتال جديدة. حتى الصين اعتمدت مقاربة “الأمن الوطني الشامل” التي تدمج السياسة والاقتصاد والصحة والبيئة والتكنولوجيا في رؤية واحدة.

في لبنان، هذه التحوّلات ليست نقاشًا نظريًا بل واقعًا ضاغطًا. الأزمة الاقتصادية جعلت الأمن الغذائي والمالي في قلب السيادة، وانهيار القطاع الصحّي كشف أنّ الأمن الصحي شرط لبقاء المجتمع، فيما ضعف البنية الرقمية جعل البلاد عرضةً للاختراقات السيبرانية، والحرائق المتكرّرة والتصحّر ونقص المياه أثبت أن الأمن البيئي لم يعد رفاهية بل قضية مصيرية. لذلك، فإنّ حماية السيادة اللبنانية اليوم تعني أكثر من بسط سلطة الدولة على الأرض، إذ تشمل تعزيز الاستقلالية الرقمية، وبناء قدرات اقتصادية وصحية متينة، وإطلاق استراتيجية وطنية تدمج هذه المفاهيم الحديثة في صلب الأمن القومي.

الخُلاصة أن السيادة لم تعد حصنًا مغلقًا، ولا الأمن شأنًا عسكريًا بحتًا. إنّهما مفهومان متداخلان يعكسان قدرة الدول على التكيّف مع تحدّيات القرن الحادي والعشرين. وفي زمنٍ أصبحت فيه البيانات والطاقة والصحة والبيئة عناصر تحدّد مصير الدول، فإنّ بقاء لبنان مرهون بقدرته على صياغة سيادة مرنة وأمن شامل يضع الإنسان في قلب الأولويات. إنّها معادلة بقاء لا مفرّ منها.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us