الهوية الرقمية: هوية لبنان الجديدة نحو دولة شفافة وعصرية


خاص 8 تشرين الأول, 2025

الهوية الرقمية ليست مشروعًا تقنيًا فحسب، بل هي مشروع ثقة وطنية. فحين يشعر المواطن بأنّ بياناته مصونة وأنّ الدولة تحترم خصوصيّته وتقدّم له الخدمات بكرامة وسرعة، تُستعاد العلاقة المفقودة بين المجتمع ومؤسساته.

كتب جو أندره رحال لـ”هنا لبنان”:

في بلدٍ أنهكته الطوابير والملفات الورقية والتواقيع المتكرّرة، بات السؤال الملحّ اليوم: كيف يمكن للبنان أن يبني دولة حديثة من دون أن يبدأ من النقطة الأكثر حساسية — هوية المواطن؟ هنا تكمن نقطة التحسّس الأولى: الهوية. فهي ليست مجرّد بطاقة تعريف، بل عنوان الثقة المفقودة بين المواطن والدولة، والمفتاح الحقيقي لأي إصلاح إداري أو اقتصادي.

في عالمٍ يسابق الزمن في التحوّل الرقمي، لم يعد مفهوم الهوية الرقمية رفاهيةً أو خيارًا إداريًا، بل أصبح ضرورة وطنية وسيادية لأي دولة تسعى إلى ترسيخ الشفافية ومكافحة الفساد وتعزيز الثقة بين المواطن ومؤسساته. وفي لبنان، الذي يعيش أزمةً بنيويةً تطال مؤسساته وإداراته العامة، تبرز الهوية الرقمية كأحد المفاتيح الأساسية لإعادة بناء الدولة من الداخل، وتحويل العلاقة بين المواطن والدولة من علاقة ورقية معقّدة إلى منظومة رقمية فعّالة قائمة على الحوكمة الرشيدة.

الهوية الرقمية هي التمثيل الإلكتروني الرسمي للفرد في الفضاء الرقمي، تُتيح له إثبات شخصيته وإنجاز معاملاته بطريقة سريعة وآمنة من دون الحاجة إلى الحضور المادي أو الوثائق الورقية. وتتكوّن عادةً من بيانات تعريفية شخصية ووسائل تحقق بيومترية مثل بصمة الإصبع أو بصمة الوجه، إضافةً إلى التوقيع الإلكتروني الذي يُستخدم في المعاملات الرسمية. إنّها ببساطة “البطاقة الوطنية الرقمية”، لكنّها أكثر من ذلك بكثير، فهي تجسّد مبدأ “الهوية الذاتية السيادية” الذي يمنح المواطن الحقّ في التحكّم ببياناته واختيار الجهة التي يشاركها، مما يعزّز الخصوصية والثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع.

في لبنان، حيث البيروقراطية تتسبّب بتعطيل معظم الخدمات وتفتح أبواب الفساد والمحسوبيّات، تأتي الهوية الرقمية كفرصةٍ لإعادة بناء الإدارة العامة. فبدلًا من طوابير الانتظار أمام الدوائر الرسمية، يمكن للمواطن إنجاز معاملاته إلكترونيًا عبر منصة موحدة، كما تنصّ عليه خطة التحوّل الرقمي 2020–2030 التي وضعتها الحكومة اللبنانية بالتعاون مع البنك الدولي. هذه الخطوة لا تسهّل فقط حياة المواطن، بل تُعيد تنظيم الإدارة على أسس حديثة وشفافة، وتقلّل من الهدر والفساد الذي طال مؤسسات الدولة لسنوات.

الهوية الرقمية أيضًا مفتاح أساسي للنهوض بالاقتصاد اللبناني المنهك. إذ تُمكّن روّاد الأعمال من تأسيس شركاتهم، وتوقيع العقود، وفتح الحسابات المصرفية إلكترونيًا، وتوسيع نطاق العمل من دون عوائق بيروقراطية. وهي ركيزة أساسية في تعزيز الاقتصاد الرقمي الذي بات من أكثر القطاعات نموًّا في العالم، والذي يمكن أن يكون للبنان فيه موقع متقدّم بفضل طاقاته البشرية وكفاءاته التكنولوجية. كما تفتح الهوية الرقمية الباب أمام الشمول الاجتماعي والمالي، إذ يمكن عبرها إيصال المساعدات والبرامج الاجتماعية مباشرةً إلى المستحقّين، ما يحدّ من الفساد والهدر، كما أظهرت تجارب ناجحة في لبنان بالتعاون مع منظمات دولية استخدمت الهويات الرقمية لتوزيع الدعم الإنساني والمالي على اللاجئين.

لكن هذا المشروع الطموح لا يخلو من العقبات. فنجاح الهوية الرقمية في لبنان يتطلّب بنية تحتية قوية وتشريعات حديثة تواكب التطوّر العالمي. القانون رقم 81 لعام 2018 المتعلّق بالمعاملات الإلكترونية وحماية البيانات يُعدّ خطوة أولى مهمة، لكنّه يحتاج إلى تحديث شامل ليتوافق مع المعايير الدولية، وعلى رأسها اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات (GDPR). كما تواجه الدولة تحدّيات تتعلّق بانعدام الثقة بين المواطن والسلطة، والخشية من استخدام البيانات لأغراض سياسية أو طائفية، إضافةً إلى ضعف البنية التحتية التقنية وتشتّت قواعد البيانات بين الإدارات العامة، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية التي تُعيق تمويل هذا التحول الحيوي.

تجاوُز هذه العقبات يتطلّب رؤية وطنية شاملة تبدأ بإرادة سياسية واضحة تضع التحوّل الرقمي على رأس أولويات الدولة. يجب إنشاء هيئة وطنية مستقلة للهوية الرقمية تخضع لرقابة برلمانية ومجتمعية، وتعمل وفق أعلى معايير الأمن السيبراني والتشفير، مع اعتماد بنية تحتية هجينة تربط بين مراكز بيانات محلية وسحابية لضمان الأمان والاستمرارية. كما ينبغي تنفيذ مراحل تجريبية في قطاعاتٍ محدّدةٍ كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي قبل التعميم الكامل، وإطلاق حملات وطنية للتوعية وتدريب المواطنين على استخدام الهوية الرقمية وحماية بياناتهم الشخصية، حتى يصبح المشروع جزءًا من الثقافة العامة لا مجرّد مبادرة حكومية.

الهوية الرقمية ليست مشروعًا تقنيًا فحسب، بل هي مشروع ثقة وطنية. فحين يشعر المواطن بأنّ بياناته مصونة وأنّ الدولة تحترم خصوصيّته وتقدّم له الخدمات بكرامة وسرعة، تُستعاد العلاقة المفقودة بين المجتمع ومؤسساته. إنّها أيضًا مدخل لإصلاح أوسع يشمل اللّامركزية الإدارية، وتحديث القضاء، وتفعيل العدالة الإلكترونية، وربط الجامعات والمستشفيات والإدارات بشبكة رقمية وطنية موحدة.

لبنان، الذي يبحث عن طريقه نحو الدولة الحديثة، لا يحتاج إلى شعارات إصلاحية جديدة، بل إلى قرارات جريئة تُغيّر جوهر العلاقة بين الدولة والمواطن. والهوية الرقمية هي المفتاح لهذه النقلة النوعية، لأنها تدمج الكفاءة بالعدالة، والحداثة بالسيادة، والتكنولوجيا بالشفافية. فإذا ما أُطلقت بإرادة صادقة ورؤية استراتيجية، يمكن للهوية الرقمية أن تكون الشرارة التي تُدخل لبنان إلى عصر الدولة الذكية الفاعلة، الدولة التي تضع الإنسان في صميم سياساتها وتبني مؤسساتها على المعرفة والحوكمة الرشيدة. إنّها ببساطة، هوية لبنان الجديدة في القرن الحادي والعشرين.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us