فاتورة الحرب السرية: كم تدفع إيران لوكلائها في المنطقة؟!

ترجمة هنا لبنان 8 تشرين الأول, 2025

ترجمة “هنا لبنان”

كتب Natasha Metni Torbey لـ”Ici Beyrouth“:

بدأت بعثة من وزارة الخزانة الأميركية جولة مكثفة في بيروت، شملت مصرف لبنان وعددًا من المصارف التجارية ومسؤولين حكوميين، في خطوة استثنائية تهدف إلى الرصد المباشر لكيفية تطبيق العقوبات المفروضة لكبح تمويل حزب الله. تأتي هذه الجولة في توقيت حساس، بعد تصريحات المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، توم باراك، الذي كشف في مقابلة مع قناة “سكاي نيوز” بتاريخ 22 أيلول الماضي، أن الحزب لا يزال يتلقّى نحو 60 مليون دولار شهريًا من إيران، ما يضع لبنان مجدّدًا في قلب الصراع المالي والسياسي الإقليمي.

من منظور واشنطن، تفتح هذه المعطيات الباب أمام علامات استفهام كبيرة: ما هو المسار الذي تتسلّل هذه المبالغ الضخمة عبره؟ هل تمرّ عبر مرافئ بيروت، أم تُهرّب عبر مطار العاصمة، أم تعبر الحدود مع سوريا؟ والأهم من ذلك: كيف يمكن إيقاف شريان التمويل هذا الذي تحدّى لأعوام كل محاولات الرقابة والعقوبات الدولية؟

هذه الأسئلة تتجاوز حدود الساحة اللبنانية، لتفتح نقاشًا أوسع حول التكلفة الحقيقية للدعم الإيراني لشبكة حلفائها الإقليميين… شبكة يقدّر بعض الخبراء عدد مقاتليها بنحو مئتي ألف مقاتل موزعين بين لبنان والعراق وسوريا واليمن. بمعنى آخر، تموّل طهران منظومة عسكرية وسياسية متكاملة تكلفها مليارات الدولارات سنويًا. هذا النظام المعقّد من الميزانيات المتداخلة وشبكات التمويل السرية والنفقات المخفية، هو محور هذا التقرير: يحاول موقع “Ici Beyrouth” فكّ شيفرة هذه الآلية وكيفية عملها وتأثيرها المحتمل في توازنات المنطقة وميزان القوة الإقليمي.

بانوراما بالأرقام: ما هي الفاتورة الفعلية؟

قبل الخوض في تفاصيل موازنة الدفاع الإيرانية، تجدر الإشارة إلى أن إيران تمتلك اليوم أحد أكبر الجيوش في المنطقة من حيث عدد العناصر. وحسب تقرير صادر عن “The Military Balance” في شباط 2025، يبلغ عدد القوات الإيرانية نحو 610 آلاف عسكري ناشط، بينهم 350 ألف جندي في الجيش النظامي (أرتش)، و190 ألف عنصر في الحرس الثوري الإيراني، إضافةً إلى نحو 200 ألف مقاتل ضمن الجماعات الحليفة لإيران الميليشيات أو “الوكلاء”. وبذلك، يتجاوز مجموع القوات الإيرانية عدد قوات كلٍّ من مصر (438.500 عسكري) والسعودية (257.000 عسكري).

لكنّ خلف هذه القوة البشرية الهائلة تكمن كلفة مالية ضخمة يصعب تحديدها بدقة، تشمل الرواتب والتسليح والدعم اللوجستي والشبكات السرية المنتشرة في الخارج. ومع ذلك، تُشير البيانات المتاحة إلى أنّ إيران أنفقت خلال العقد الماضي مليارات الدولارات لتمويل منظومتها العسكرية والإقليمية، بالاعتماد على مزيج من الإيرادات الحكومية والأموال التي يديرها الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب آليات التفاف مالية خارج النظام المصرفي الدولي. ولفهم حجم هذا المشروع العسكري، يقدم موقع “Ici Beyrouth” لمحةً عن تطور ميزانية الدفاع الإيرانية نفسها:

وفقًا لوزارة الخارجية الأميركية، أنفقت إيران نحو 16 مليار دولار لدعم ما يُعرف بـ”محور المقاومة” ما بين عامَيْ 2012 و2018.
كما أن الإنفاق العسكري الإيراني ارتفع بنسبة تقارب 40% منذ توقيع الاتفاق النووي في فيينا عام 2015 وحتى انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018. لكن هذا الارتفاع لم يدم طويلًا، إذ أدّى تشديد العقوبات الأميركية إلى قلب المعادلة؛ فانخفضت ميزانية الدفاع الرسمية من 27.3 مليار دولار عام 2018 إلى نحو 20.7 مليار دولار في 2019، ما يعكس بشكل مباشر تأثير العقوبات في قدرة طهران على تمويل حلفائها الإقليميين واستمرار نشاطاتها العسكرية خارج حدودها.

في السابع من تشرين الأول 2023، فجّر هجوم حركة “حماس” على إسرائيل شرارة حرب لا تزال تشتعل حتى اليوم، بعدما استدرجت المنطقة بأسرها إلى دوامةٍ من التصعيد المتواصل، وحشدت إيران جميع وكلائها الإقليميين في ساحات القتال.

وفي عام 2024، كانت الميزانية الرسمية لوزارة الدفاع الإيرانية تُقدَّر بنحو 8.04 مليارات دولار. غير أن طهران، بعد عام واحد فقط، أي في 2025، قررت “استعادة زمام المبادرة” عبر خطة طموحة تقضي بزيادة الإنفاق العسكري بنسبة 200%، أي ما يعادل تضاعف ميزانية الدفاع ثلاث مرات خلال عام واحد. بمعنى آخر، رفعت إيران موازنتها الدفاعية من نحو ثمانية مليارات إلى ما يقارب أربعةً وعشرين مليار دولار (وربما أكثر) بالنظر إلى البنود غير المعلنة التي عادةً ما تندرج ضمن الإنفاق الأمني السري.

أمّا “حزب الله” فواصل وحده تلقّي دعم سنوي من طهران يُقدَّر بحوالي 700 مليون دولار، وهو رقم ينسجم مع ما أكّده باراك، الذي أوضح أن الحزب يحصل على ما يقارب ستين مليون دولار شهريًا. في قطاع غزّة، تشير التقديرات إلى تلقّي حركة حماس نحو 80 مليون دولار سنويًا، في حين يُخصَّص ما يقارب 70 مليون دولار لحركة الجهاد الإسلامي. أمّا في سوريا، فبلغت المساهمة الإيرانية في عام 2015 وحده ستة مليارات دولار، بينما كان الرئيس السابق بشار الأسد لا يزال يمسك بمقاليد السلطة.

تعكس هذه الأرقام صورةً مركّبة ومُتعدّدة الأبعاد: الأمر أبعد من مجرد تدفّق نقدي بل منظومة متكاملة من تحويلات مالية وتسليمات تسليحية، وتمويل لبرامج تدريب متخصِّصة، ورواتب ومعاشات لمقاتلين أجانب، ورعاية لعائلات “الشهداء”. والنفقات تمتدّ لتشمل تأمين الذخائر وصيانة المعدّات وبناء بنى تحتية لوجستية، وصولًا إلى تقديم خدمات اجتماعية كالتعليم والدعم المالي المنتظم. ولكي تُفهم خريطة الإنفاق هذه بدقّة، بات لزامًا تفكيك مكوّناتها وتتبّع أوجه صرفها الفعلية عبر كامل شبكة النفوذ الإيراني في المنطقة.

التجنيد والتدريب

تختلف تكلفة التدريب اختلافًا كبيرًا بحسب الملفات: فالتدريب الابتدائي المحلي قد يكون منخفض التكلفة نسبيًا، بينما تستلزم برامج التدريب المتخصصة (مثل إطلاق الصواريخ، وتشغيل الطائرات المسيّرة، والهندسة المتعلقة بالأجهزة المتفجّرة، والحرب الحضرية) ومدرّبين متخصّصين ومنشآت ومعدّات باهظة الثمن. وتشير التقديرات إلى مبالغ تراكمية تصل إلى مئات الملايين من الدولارات على مدى سنوات لبرامج التدريب الإقليمي المكثف. وفي هذا السياق، يؤكد خبير لموقع “Ici Beyrouth” أن “التكلفة المتوقعة للتدريب والاشتباكات تتراوح ما بين 50 و400 مليون دولار”.

الدعم اللوجستي والمؤسسات المحلية

تُعدّ اللوجستيات، من نقل الأسلحة وقطع الغيار إلى الصيانة ومراكز القيادة، مرورًا بممرّات الإمداد البحرية والبرية، أحد أغلى أعمدة الإنفاق وأكثرها استمرارية. وقد بات دور شبكات العبور البرية والبحرية ثابتًا ومثبتًا في تقارير التحقيقات: استخدام “أساطيل شبحية” (سرية) من الناقلات ووكلاء بحرية غير معلنين أصبح آلية محورية للتحايل على العقوبات. وتُقدَّر كلفة هذه الآليات المباشرة والمتكرّرة بما يتراوح ما بين 200 مليون و1.2 مليار دولار سنويًا.

التسلّح والذخائر

يتطلّب نقل الأسلحة أو تصنيعها محليًا (من صواريخ وقذائف إلى طائرات مسيّرة ومواد متفجّرة) نفقات هائلة وتتراكم تكاليف حتى أبسط الذخائر والأنظمة التقنية، في ظلّ السعي المستمر لإعادة تزويد الجبهات وتجديد الترسانات. وتُشير تقارير حديثة حول نفقات العمليات العسكرية لعام 2025 إلى عبء مالي هائل تتحمّله إيران عند كل جولة من التصعيد، خصوصًا حين تستلزم المواجهات ضربات عسكرية، أو تبادلًا للصواريخ، أو إعادة بناء الترسانات.

وللدلالة على حجم الإنفاق، يمكن النظر في المثال التالي: يُقدَّر أن إيران أنفقت نحو 49 مليون دولار لشنّ هجوم بالصواريخ والطائرات المسيّرة على إسرائيل، في إطار الحرب الأخيرة التي اندلعت عقب هجوم 7 تشرين الأول 2023. ويستند هذا الرقم إلى حساب التكلفة الوحدوية: نحو 170 طائرة مسيّرة (بسعر يقارب 35 ألف دولار للوحدة)، و30 صاروخًا جوّالًا (بمعدل مليون دولار لكل صاروخ)، و120 صاروخًا باليستيًا (بسعر 110 آلاف دولار لكل صاروخ)، ما يرفع الكلفة الإجمالية إلى نحو 49.15 مليون دولار.

هذه النفقات مرشّحة للارتفاع بسهولة إلى مئات الملايين سنويًا، لتتراوح (وفق بعض المصادر) ما بين 300 مليون و1.5 مليار دولار، في حال تكرار هذه المواجهات وتوسيع عمليات إعادة التسليح.

الرواتب والمخصّصات والمساعدات الاجتماعية

كما تموّل إيران رواتب ومخصّصات مالية ومساعدات مباشرة للمقاتلين وعائلاتهم في مناطق متعدّدة، حرصًا على ضمان الولاء والاستقرار داخل شبكات نفوذها. وغالبًا ما تكون هذه التحويلات منتظمة شهرية، ما يجعلها من النفقات الثابتة التي تُضاف إلى كلفة التسليح والعمليات. وتشير التقديرات إلى أنّ هذه المصاريف تتراوح ما بين 100 و600 مليون دولار سنويًا، تُضاف إليها مبالغ أخرى تراوح ما بين 50 و500 مليون دولار تُخصَّص لمشاريع إعادة الإعمار المحلية ودعم السكان المدنيين، وتمويل منظمات غير حكومية كواجهةٍ تُستخدم لتغطية النشاطات السياسية والاجتماعية الموالية لطهران.

الخدمات المحيطة

كما يشمل الدعم برامج لإعادة الإعمار أو استثمارات اقتصادية محلية تهدف إلى ترسيخ القاعدة السياسية للمجموعات المدعومة. ومرة أخرى، قد تصل الالتزامات في هذا الجانب إلى مئات الملايين من الدولارات بحسب حجم المشاريع ومدى طموحها.

وفيما يتعلّق بالمدفوعات إلى الوسطاء وشركات الواجهة، وكذلك تلك المخصّصة للتحويلات السرية واللوجستيات الموازية، فتشير التقديرات إلى مبالغ تتراوح ما بين 50 و400 مليون دولار. وبالتالي، قد يتراوح المجموع المتوقع لمثل هذه النفقات ما بين 750 مليون و4.6 مليارات دولار سنويًا، وقد يزيد ذلك بكثير في فترات التصعيد. ومع ذلك، يشكّك بعض الخبراء في قدرة إيران على تحمّل مثل هذه الأعباء على المدى الطويل، نتيجة العقوبات الدولية، والضغوط المالية الداخلية، وحدود الاقتصاد الهيكلية.

ماذا عن مصادر التمويل؟

مصادر التمويل الإيرانية المخصّصة للعمليات الخارجية متعدّدة وغالبًا ما يصعب تتبعها. ويتدفق جزء مهم من ميزانية الدولة وقيود الاعتمادات العسكرية، مع مخصّصات تُمنح للقوات المسلحة، ولا سيما للحرس الثوري الإيراني وفروعه مثل فيلق القدس، التي تستفيد من خطوط تمويل مباشرة أو تحويلات عينية؛ وقد وفّرت الزيادات الأخيرة في الميزانية العسكرية هامش تحرك أوسع.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من العقوبات، تستمرّ إيران بتحقيق إيرادات نفطية عبر آليات تصدير سرية (ومن ضمنها استخدام “أساطيل شبحية”) تُساهم جزئيًا في تمويل العمليات الخارجية. كما يسيطر الحرس الثوري على شبكة واسعة من الشركات والأنشطة الاقتصادية (إنشاءات، استيراد وتصدير، نقل بحري، بنوك موازية)، وتعود بعض أرباح هذه الأنشطة لصالح ميزانياته العسكرية والعملية، ما يخلق نظامًا شبه مستقل ماليًا. كما كشفت تحقيقات وإجراءات عقابية عدّة عن وجود شبكات متقنة لغسل الأموال، وشركات واجهة، ووسطاء في آسيا والشرق الأوسط، تسهّل تحويل الأموال بهدوء إلى المستفيدين الإقليميين.
أخيرًا، يكمل بين الحين والآخر تمويل خاص أو حملات جمع تبرّعات تنظمها حركات متضامنة، ما يزيد من غموض مصدر ووجهة الأموال.

ومن ثمّ، تتولى طهران توجيه وتسخير كل ذلك. فما هي الآلية المتبعة؟

آلية التوزيع: من يقرّر وكيفية دوران الأموال

تمرّ القرارات العملياتية بشكل أساسي عبر فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الجهة المسؤولة عن المشاريع الخارجية لطهران. بعد ذلك، يُقسَّم التدفّق المالي على مراحل: بدءًا من التحويل المركزي إلى محاور لوجستية في العراق وسوريا ولبنان، ثم إعادة التوزيع محليًا عبر وسطاء إقليميين، و”جامعين” للأموال، وهيئات جمعياتية أو خيرية تُستغلّ أحيانًا كواجهة.

وتتلقى الدول العميلة أو الميليشيات تمويلًا ومعدّات عينية مثل الصواريخ وقطع الغيار والمدرّبين، بدل الشيكات النقدية المباشرة. وتكاد عمليات التدقيق العامة المستقلّة تكون منعدمة، في حين تظل الشفافية محدودة، مما يصعّب تقدير حجم الأموال المخصصة لكل جهة أو نوع الدعم المقدم.

ولا يقتصر دعم شبكةٍ من الوكلاء الإقليميين على النفقات العسكرية فحسب، بل يُعدّ استثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد تلتزم به الجمهورية الإسلامية. فكل دولار يُنفق يُحسب بدقة لتعظيم النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وفي الوقت نفسِه تعزيز قدرة طهران على الإسقاط الإقليمي.

ومع ذلك، تكشف هذه الاستراتيجية المُكلفة، المعتمدة على تدفّقات مالية هشّة ووسائل التحايل المستمرّة على العقوبات، عن هشاشة الاقتصاد الإيراني وتضع علامات استفهام كبيرة حول قدرة طهران على الاستمرار على المدى الطويل. فدعم شبكة من الوكلاء لا يقتصر على بُعدٍ عسكري، بل هو رهان سياسي واقتصادي محفوف بالمخاطر، قد يثقل كاهل الخزينة الإيرانية ويهدد الاستقرار الداخلي.
وفي هذا الإطار، تكتسب الجولة الحالية لوفد وزارة الخزانة الأميركية في لبنان طابعًا بالغ الأهمية، إذ تمثّل فرصةً لمراقبة تحرّكات طهران المالية والإقليمية، وتلقي الضوء على مدى قدرة إيران على مواصلة شبكتها المعقّدة من النفوذ خارج حدودها.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us