لبنان يستقبل بابا الفاتيكان: رسالة سلام في لحظة مصيريّة

من لبنان، سيُطلق البابا لاوون رسالة سلامٍ تتخطّى حدود الـ10452 كيلومترًا مربّعًا، لتطال مختلف أرجاء الشّرق وخاصّةً المسيحيّين فيه. كما سيُعيد تذكير من نَسي أو تناسى، أنّ لبنان بلد رسالة ذات هويّة خاصّة، ونموذج نادر في المنطقة لكيفيّة العيش المشترك الّذي يهتزّ بين الفينة والأخرى.
كتب إيلي صرّوف لـ”هنا لبنان”:
إنّه آتٍ. على وقْع اتفاق وقف الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، والتحذيرات المتصاعدة من إمكانيّة تجدُّدها على لبنان، وفي ظلّ النّزاعات والمتغيّرات والتوتّرات الّتي تعصف ببلد الأرز ومحيطه، والمخاوف والهواجس الّتي تعتري مسيحيّي الشّرق النّازف… إنّه آتٍ، حاملًا رسالة سلامٍ وأملٍ ورجاء.
بعد خمسة أشهرٍ على إعلان حبريّته في 8 أيّار 2025، وفي أولى جولاته الرّسوليّة خارج روما منذ انتخابه، كَشف مكتب الإعلام في الكرسي الرّسولي، أنّ بابا الفاتيكان لاوون الرّابع عشر سيقوم بزيارةٍ رسوليّةٍ إلى لبنان من 30 تشرين الثّاني إلى 2 كانون الأوّل المقبل، تلبيةً لدعوة رئيس الجمهوريّة جوزاف عون والسّلطات الكنسيّة اللّبنانيّة، وذلك بعد زيارةٍ مرتقبةٍ إلى تركيا من 27 إلى 30 تشرين الثّاني المقبل؛ حيث سيقوم بحجٍّ إلى “إزنيق” بمناسبة ذكرى مرور 1700 سنة على انعقاد المجمع المسكوني الأوّل في نيقية.
زيارةٌ تاريخيّةٌ في وقت حاسمٍ ودقيق، تُعَدّ الرّابعة لحبرٍ أعظم إلى لبنان، بعد الزّيارة الأولى المقتضبة للبابا القدّيس بولس السّادس عام 1964، وزيارة البابا القدّيس يوحنا بولس الثّاني في أيّار 1997، وزيارة البابا بنديكتوس السّادس عشر في أيلول من العام 2012.
توقيت مهم ومتعدّد الأبعاد
توقيتُ الزّيارة إلى لبنان الّذي يعاني من أزماتٍ متراكمة، يحمِل أبعادًا وأهميّةً على صعد دينيّة وسياسيّة ووطنيّة. فمن جهةٍ، هذه المبادرة تؤكّد مجدّدًا عمق العلاقة الّتي تجمع لبنان بالكرسي الرّسولي، وترمز إلى تضامن الأخير مع الشّعب اللّبناني ووقوفه روحيًّا إلى جانبه في محنته. وهذا ما كان قد سلّط عليه الرّئيس عون الضّوء، في بيانه الترحيبي بزيارة الحبر الأعظم، إذ اعتبر أنّها “تُشكّل علامةً فارقةً في تاريخ العلاقة العميقة الّتي تجمع لبنان بالكرسي الرّسولي، وتجسّد الثّقة الثّابتة الّتي يوليها الفاتيكان لدور لبنان، رسالةً ووطنًا، في محيطه وفي العالم”.
ومن جهةٍ ثانية، تُعتَبر الزّيارة المرتقبة نوعًا من تحقيق خَلف لوَعد سَلفه. ففي عام 2021، بعد الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، وانفجار مرفأ بيروت وتبعاته الكارثيّة، وفي ظلّ الجمود السّياسي الّذي كان مسيطرًا في لبنان، أشار البابا الرّاحل فرنسيس خلال عودته من زيارةٍ تاريخيّةٍ إلى العراق، إلى أنّ “لبنان رسالة. لبنان يتألّم. لبنان ليس مجرّد توازن هشّ، بل هو قوّة في تنوّعه، وإن لم تتصالح بعض أطيافه بعد، غير أنّ له قوّة الشّعب الكبير المتصالح، مثل صلابة أرزه”. وذكر أنّ “البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي طلب منّي التوقّف في بيروت خلال الرّحلة، لكنّي رأيت أنّ ذلك لا يكفي. نقطة صغيرة أمام مأساةٍ كبيرة، أمام بلدٍ يتألّم كلبنان. فكتبتُ إليه رسالةً، ووعدتُه بأن أقوم بزيارة”.
غير أنّ الوضع الصّحي للبابا الرّاحل ولعنة الفراغ الطّويل الّتي حلّت على لبنان، والحرب الإسرائيليّة المدمّرة… كلّها عوامل منعته من تحقيق وعده. أمّا اليوم، فتأتي زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكيّة بعد بداية العهد الجديد، وما حمله من آمالٍ بتغييرٍ مرجوّ في الحياة السّياسيّة وبخروجٍ من حفرة الفساد والانهيار، وكأنّها رسالة دعمٍ للعهد والمسار الّذي يسلكه، ودعوة متجدّدة إلى السّلام والحفاظ على قيم الحرّيّة والتعدّديّة والعيش المشترك.
وقد أكّد البابا لاوون في تصريح صحافي في السّابع من هذا الشّهر، أنّ “في لبنان، ستُتاح لي الفرصة مجدّدًا لإعلان رسالة السّلام في الشّرق الأوسط، في بلدٍ عانى كثيرًا. البابا فرنسيس أراد الذّهاب إلى هناك أيضًا، ليعانق الشّعب اللّبناني بعد الانفجار وكلّ ما عاناه. سنحاول أن نحمل رسالة السّلام والأمل هذه”.
لبنان رسالة ونموذج
وعن أهميّة هذه الزّيارة وأبعادها، يُشير مدير المركز الكاثوليكي للإعلام المونسنيور عبدو أبو كسم، في حديث لـ”هنا لبنان”، إلى أنّ “النّقطة الأهمّ أنّه تمّ الإعلان رسميًّا عن هذه الزّيارة”، في ظلّ الأصوات المشكّكة الّتي استبعدت حدوثها. ويوضح أنّها “أوّل زيارة رعويّة ووطنيّة للبابا لاوون الرّابع عشر خارج روما، ما يؤكّد أهميّة لبنان لدى الفاتيكان والكرسي الرّسولي وموقعه الخاص. كما أنّها ستكون الزّيارة البابويّة الثّالثة إلى بيروت خلال 28 سنة تقريبًا، وهذا أمر لافت، ويعكس مدى أهميّة هذا البلد ومحوريّته في الشّرق”.
ويشدّد على أنّ “لبنان بلد رسالة، يضمّ مختلف الطّوائف، وهو نموذج مصغّر عن الشّرق الأوسط وعن العيش المشترك المسيحي – الإسلامي. كما أنّ المسيحيّين فيه لهم دور أساسي في التواصل والانفتاح والحوار والتعليم والعيش المشترك، وفي كلّ المشاريع الاجتماعيّة والاقتصاديّة في لبنان والشّرق”.
ويذكّر أبو كسم بأنّ “البابا القديس يوحنا بولس الثّاني قال إنّ لبنان أكثر من بلد، إنّه رسالة”، وخَلَفه بنديكتوس السّادس عشر حَمل معه الإرشاد الرّسولي “مسيحيّو الشّرق، شركة وشهادة”، ما يعني أنّ للمسيحيّين دورًا في أن يكونوا شركاء ومتعاونين ومتكاتفين مع غيرهم، وأن يشهدوا في هذا الشّرق”.
ويلفت إلى أنّه “في هذا الإطار، تأتي الزيارة إلى لبنان الرّسالة والشّركة والشّهادة، لتحافظ على هذا البلد وعلى الوجود المسيحي والمتنوّع فيه، وعلى الحوار المسيحي – الإسلامي والكيان المتميّز”، مركّزًا على أنّه “في ظلّ ما يمرّ به الشّرق الأوسط من متغيّرات، تأتي زيارة قداسة البابا لتقول إنّه يجب المحافظة على هذا الكيان اللّبناني المميّز، وعلى بلد الرّسالة، وضرورة أن يكون المسيحيّون شركاء مع الطّوائف الأخرى”.
رمزيّة الزّيارة تتخطّى الشّقَين الدّيني والرّوحي، ولها بُعدٌ سياسيّ خاصّةً بعد المتغيّرات الّتي طَبعت المشهد اللّبناني في الأشهر الأخيرة. وهنا ينوّه أبو كسم إلى أنّ “الزّيارة أتت أيضًا بناءً على دعوة رئيس الجمهوريّة، الّذي زار الفاتيكان مرّتين منذ تولّيه سدّة الرّئاسة، وبالتالي الزّيارة المرتقبة تُعتبر زيارة دولة ورعويّة في آن”، مُبيّنًا أنّ “التحضيرات الّتي نقوم بها تتمّ بالتعاون الوثيق مع رئاسة الجمهوريّة، من خلال لجنة تترأسها السيّدة الأولى نعمت عون”.
كما يؤكّد أنّ “برنامج الزّيارة يُعمل عليه، وسيُعلَن رسميًّا عندما يتمّ الانتهاء من صياغته، وكلّ ما يُحكى أو يُسرَّب في هذا الإطار يبقى ضمن إطار الأقاويل والتكهّنات”، متمنّيًا على وسائل الإعلام كافّة “عدم التداول بأيّ تفاصيل قبل صدور البرنامج الرّسمي”.
إعلان موعد زيارة البابا الأميركي الأصل بَعث نوعًا من الارتياح الحذر، وسط الاعتقاد أنّها ستكون كفيلةً بمنع إسرائيل من التمادي في تصعيدها أو إشعال حربٍ جديدةٍ في لبنان، وأنّ أيّ زيارة مشابهة لن تحصل إلّا إذا كانت هناك تأكيدات تضمن أمن البابا وسلامته. لكن في مُطلق الأحوال، سبق أن برهن الجانب الإسرائيلي في مراحل وأماكن مختلفة، أنّ من طباعه الغدر والتفلّت من أيّ التزامات أو اتفاقات. ويكتفي أبو كسم بالجزم أنّه “يتمّ العمل لإقامة أفضل استقبال وأحسن تحضيرات لمواكبة الزّيارة، سواء من قبل الكنيسة أو الدّولة”.
من لبنان، سيُطلق البابا لاوون رسالة سلامٍ تتخطّى حدود الـ10452 كيلومترًا مربّعًا، لتطال مختلف أرجاء الشّرق وخاصّةً المسيحيّين فيه. كما سيُعيد تذكير من نَسي أو تناسى، أنّ لبنان بلد رسالة ذات هويّة خاصّة، ونموذج نادر في المنطقة لكيفيّة العيش المشترك الّذي يهتزّ بين الفينة والأخرى. فهل سيتلقّف المسؤولون اللّبنانيّون مضامين هذه الزّيارة ورسائلها، لإحداث تغييرٍ إيجابي، حتى لا تنتهي مفاعيلها مع رحيل خليفة بطرس؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() بين التلوّث والتدخين ونمط الحياة غير الصحي… لبنان يتصدّر بالسرطان! | ![]() التنمّر في لبنان: بين الألم الصّامت والتشريع المُنتظر! | ![]() أزمة التعليم الرّسمي في لبنان: تقليص أيّام التدريس وتوسّع الفجوة مع الخاص |