مهمّة أورتاغوس المقبلة: السلاح والمفاوضات


خاص 16 تشرين الأول, 2025

 

ما ستتجه إليه الأمور واقعياً هو الآتي: بعد غزة، سيتفرغ الإسرائيليون للبنان مرة أخرى. وسيكون عليه أن يفي بالتزاماته الواردة في اتفاق وقف النار، إما طوعاً وإما تحت وطأة النار. وبعد ذلك، تبدأ مرحلة جديدة تسمح بالانتقال إلى مستوى أعلى من المفاوضات

كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:

رمى الرئيس جوزاف عون حجراً في المستنقع الراكد. فقد أعلن الانفتاح على مبدأ التفاوض مع إسرائيل، من دون أن يدخل في ما إذا كان هذا التفاوض مباشراً أو لا، وإذا كان سياسياً أو يبقى أمنياً عسكرياً كما هو اليوم في الناقورة. ولكن، ثمة إشارة لم يتنبه إليها كثيرون، وهي أنّ الولايات المتحدة التي ترأس أساساً اجتماعات “الميكانيزم”، من خلال ضابط برتبة جنرال، بدلت في طبيعة رئاستها أحياناً، ومن دون ضجيج، لتصبح سياسية في بعض الأحيان، من خلال مورغان أورتاغوس، موفدة دونالد ترامب إلى لبنان وإسرائيل والوسيطة بينهما. وهي أرجأت عودتها اليوم، لكنها ستعود لاحقاً وترأس بعض الاجتماعات ضمن مهمة محددة ومركزة. وهذا التبديل الصامت أوحى بانزلاق أميركي من الوساطة الأمنية إلى وساطة سياسية بين الطرفين.
الأميركيون كانوا ضغطوا عبر توم باراك في سوريا، فجمعوا وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر مع وزير خارجية سوريا أسعد الشيباني، وكان ذلك خرقاً تاريخياً. ولم يكن ليحصل لولا سقوط نظام الأسد ومجيء أحمد الشرع إلى السلطة. وفي أي حال، لا يخفي الأميركيون إصرارهم على فتح خطوط الاتصال السياسي بين لبنان وإسرائيل، وهذا الإصرار يتوقع أن ترتفع وتيرته في الأسابيع القليلة المقبلة.
ولكن، سواء كان لبنان الرسمي يؤيد ضمناً مبدأ المفاوضات المباشرة العالية المستوى أم لا، فإنه سيتهرب من هذا الاستحقاق ما دام “حزب الله” يرفضه بقوة، إلى أن يقوم الإيرانيون أنفسهم بإجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وليس فقط مع الولايات المتحدة. وهذا الأمر مستبعد في المدى المنظور. ولذلك، ما يعلنه لبنان الرسمي عن استعداد للتفاوض مع إسرائيل سيبقى من نوع العناوين العمومية الكبرى كنزع سلاح “حزب الله”. لكن التزامه الفعلي بهذه العناوين يبقى رهن التطورات.
لقد تعهدت الحكومة اللبنانية للأميركيين، ومن خلالهم للإسرائيليين، بأنها ستنزع سلاح “الحزب” وفق “أجندة” تراعي الضرورات العملانية والظروف السياسية. وكان مفترضاً إنجاز نزع كامل السلاح، من كل المناطق اللبنانية، قبل نهاية العام الجاري. لكن التنفيذ يبقى محدوداً و”على الطريقة اللبنانية”. والحكومة التي تعثرت أمام لمبة وصورة على صخرة الروشة، ستبقى عاجزة أمام مستودعات الصواريخ ومصانعها وأنفاقها شمال الليطاني، وحتى إشعار آخر.
هذا العجز يغطيه لبنان الرسمي بتحميل إسرائيل المسؤولية، إذ يقول: أنجزنا المرحلة الأولى، أي نزع السلاح من جنوب الليطاني. والآن، جاء دور إسرائيل بتقديم تنازل، حتى تكون لنا الحجة ونطلب المزيد من “حزب الله”. لكن مفهوم إسرائيل للبرمجة مختلف. فهي تعتبر أنّ “المرحلة الأولى” تفرض نزع سلاح “الحزب” من كل المناطق، وليس فقط من منطقة جنوب الليطاني التي سبق أن أفرغتها هي بشكل واسع من مخزونات السلاح خلال الحرب، وما يبقى منها تُواصل استهدافه، إذا لم يقم الجيش اللبناني بإخلائه. ولذلك، المطلوب إنهاء سلاح “الحزب”، الصاروخي والثقيل على الأقل، في شمال النهر أيضاً، وإلا فلا مجال للتقدم.
هنا، تتعثر خطة نزع السلاح. وهذا ما يريح “حزب الله”. وطبعاً، هو يريد أن يتعثر ملف التفاوض بين الدولة وإسرائيل كما تتعثر خطة السلاح. فعندما يطلب الأميركيون من لبنان أن يفاوض إسرائيل بشكل مباشر وعلى مستوى أعلى، فسيكون رده هو نفسه: نفاوض عندما تنسحب إسرائيل بالكامل، وتوقف ضرباتها، وتعيد الأسرى، وتسمح بإعمار القرى المدمرة وعودة الأهالي.
هذه المعطيات تقود إلى الاستنتاج الآتي: الرئيس عون والرئيس نواف سلام يمضيان في المسار الذي أطلقاه أساساً: نزع السلاح وبناء الدولة وإدخال لبنان في مسارات السلام في الشرق الأوسط، وفق الأسس التي حددتها مقررات قمة بيروت العربية في العام 2002، أي الأرض مقابل السلام. وطبعاً، سيقفان ضد توريط لبنان بعد اليوم في سياسة المحاور الخارجية. وهذا مغزى دعوة عون إلى “إسناد” لبنان باتفاق مماثل لاتفاق غزة، بعدما أسندها بحربه المدمرة.
وما ستتجه إليه الأمور واقعياً هو الآتي: بعد غزة، سيتفرغ الإسرائيليون للبنان مرة أخرى. وسيكون عليه أن يفي بالتزاماته الواردة في اتفاق وقف النار، إما طوعاً وإما تحت وطأة النار. وبعد ذلك، تبدأ مرحلة جديدة تسمح بالانتقال إلى مستوى أعلى من المفاوضات. وللتذكير، هذا السيناريو شهدته غزة بعدما جرى انتزاع قدرات “حماس”، وقبلها عاشته سوريا بإسقاط الأسد ثم ضرب كل ما بقي من قدرات يمكن أن تشكل إزعاجاً لإسرائيل. وهذا السيناريو لم يكن وارداً لا هنا ولا هناك إلا تحت وطأة النار.
إذاً، هذا هو الدرس في لبنان. وسيكون على “حزب الله” أن يتأمله بهدوء. وفي الفترة القصيرة المقبلة، سيرفع الأميركيون مستوى الضغوط، خصوصاً من خلال أورتاغوس وترؤسها بعض اجتماعات “الميكانيزم” في وقت لاحق، ومباشرة السفير الجديد ميشال عيسى أعماله. فمهمة أورتاغوس مزدوجة: أمنية تتعلق بسلاح “الحزب” وسياسية ترمي إلى تسهيل الانزلاق في الناقورة إلى مسار تفاوضي أرفع مستوى. وهذا يضع البلد أمام خيار المفاوضات اضطرارياً: فإما أن يذهب إلى التسويات المفروضة واقفاً على قدميه، وإما أن يُقتاد إليها محطماً.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us