نصف اللبنانيين تحت خط 8.3 دولارات يوميًا: الفقر كما يعيشه الناس لا كما تُظهره الأرقام!

تبرز الحاجة إلى مقاربة لبنانية لقياس الفقر، تأخذ في الاعتبار خصوصيّة الاقتصاد المحلي وتعدّد مصادر الدخل، مرورًا بالتفاوت الكبير بين المناطق والقطاعات. فقياس الفقر في لبنان لا يمكن أن يكون مجرّد معادلة رقمية، بل قراءة شاملة لواقع اجتماعي واقتصادي مركّب.
كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:
كأنّ لبنان كان يحتاج مَن يذكّره بما يعيشه يوميًا. تقرير “البنك الدولي” الأخير يؤكّد أنّ معدلات الفقر ارتفعت بشكلٍ حادٍّ خلال السنوات العشر الماضية، وأنّ أكثر من نصف اللبنانيين باتوا اليوم تحت خط الفقر.
بالأرقام، ارتفعت نسبة الذين يكسبون أقلّ من 3 دولارات يوميًّا من 0.1% عام 2013 إلى 5.9% عام 2023، والذين يكسبون أقلّ من 4.2 دولارات يوميًّا من 0.3% إلى 16%. أمّا الذين يعيشون بأقل من 8.3 دولارات يوميًّا فبلغوا 50.7%، بعدما كانت نسبتهم لا تتجاوز 5.5%.
أرقام قاسية بلا شكّ، لكنّها تفتح الباب أمام سؤال لا يقلّ أهمية: هل تعكس هذه المؤشرات فعلًا واقع اللبنانيين اليوم؟
فمَن يعرف تفاصيل الحياة اليومية في هذا البلد يدرك أنّ الصورة أعقد بكثير من أي نسبة مئوية. الكثير من اللبنانيين يعملون أكثر من وظيفة واحدة ليكملوا الشهر، بعضهم في وظائف رسمية وأخرى غير مصرّح عنها. هناك من يعمل نهارًا في مكتب أو متجر، وليلًا في مطعم أو عبر تطبيق توصيل، ومَن يعيش على تحويلات من الخارج أو على دخل موسمي متقلّب. كلّ هؤلاء لا يظهرون في الإحصاءات الرسمية، لأنّ الدراسات التي يعتمدها البنك الدولي تُبنى أساسًا على الدخل المصرَّح عنه فقط، متجاهلةً تلك الشريحة الواسعة التي تعمل خارج الإطار النظامي للاقتصاد.
ولعلّ شهادة “جواد”، وهو شاب في أواخر العشرينيّات تحدّث إلى موقع “هنا لبنان”، تختصر ما تعيشه فئة واسعة من اللبنانيين اليوم. يقول:
“أعمل نهارًا في شركة تسويق براتب لا يتجاوز 700 دولار، وليلًا في مطعم كي أتمكّن من دفع الإيجار ومساعدة أهلي. كان والدي يعمل في شركة مقاولات، لكنّه فقد عمله منذ بداية الأزمة الاقتصادية، وأمّي لا تعمل. أنا أعزب، لكنّني أعيل عائلة كاملة. لا أملك مدخرات، ولا أستطيع حتى التفكير بتأسيس حياة خاصة أو الزواج. كلّ ما أفعله هو أن أؤمّن الأساسيّات… بالكاد”.
قصة جواد ليست استثناءً، بل نموذج لحال جيل كامل أرهقته الأزمة. شباب يحملون شهادات جامعية ويعملون في وظيفتَيْن أو أكثر لتأمين أبسط متطلّبات الحياة. فكيف لشابّ في مثل حاله أن يخطّط للمستقبل أو يبدأ ببناء عائلة؟ وكم من “جواد” آخر يعيش اليوم الصراع نفسه بين الطموح والواقع؟
البنك الدولي، بطبيعة الحال، لا يختلق الأرقام من العدم. فهو يعتمد على منهجياتٍ معترفٍ بها عالميًا، تستند إلى ما يُعرف بـ”خطوط الفقر الدولية”، أي الحدّ الأدنى من الدخل الذي يحتاجه الفرد لتأمين حاجاته الأساسية، محسوبًا بالدولار وبما يتناسب مع القوة الشرائية المحلية. وتُستمد هذه البيانات من استطلاعاتٍ رسميةٍ لدخل وإنفاق الأسر، مع الأخذ في الاعتبار معدّلات التضخم وأسعار السلع.
لكن هذه الآلية، مهما كانت دقيقةً من الناحية التقنية، تصطدم بواقع لبناني غير قابل للقياس التقليدي: اقتصاد غير منظّم، وعمل غير رسمي، وغياب تام لإحصاءات مُحدّثة تعكس الدخل الفعلي للأفراد.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة الأعمق أنّ الفقر في لبنان لم يعد مجرّد رقم في تقرير دولي، بل هو واقع يتجسّد في تفاصيل الحياة اليومية. القوة الشرائية تآكلت، والقدرة على الصمود تراجعت، والطبقة الوسطى التي كانت عماد المجتمع تتلاشى شيئًا فشيئًا. المشكلة لم تعد في “كم نكسب”، بل في “ماذا نستطيع أن نشتري بما نكسبه”.
في بلدٍ فقدت فيه الليرة معناها، وأصبح الدولار ميزان البقاء، تبدّل تعريف الفقر نفسه.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مقاربة لبنانية لقياس الفقر، تأخذ في الاعتبار خصوصيّة الاقتصاد المحلي وتعدّد مصادر الدخل، مرورًا بالتفاوت الكبير بين المناطق والقطاعات. فقياس الفقر في لبنان لا يمكن أن يكون مجرّد معادلة رقمية، بل قراءة شاملة لواقع اجتماعي واقتصادي مركّب.
الأكيد أن أرقام البنك الدولي تُطلق جرس إنذار حقيقي، لكنّها لا تقول كل شيء.
فالفقر في لبنان اليوم ليس مجرّد خطّ يُرسم على جدول إحصائي، بل هو نمط حياة جديد فرض نفسه على الناس.
وبين مَن يعمل بثلاث وظائف ليعيش، ومن ينتظر تحويلًا شهريًا من الخارج، ومن باع مدخراته ليؤمّن قوت يومه، يبقى السؤال مفتوحًا:
كم بقي من الطبقة التي كانت تُعرف يومًا باسم “الطبقة الوسطى”؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() المودعون على أهبة الانتظار: هل سيرفع المركزي سقف السحوبات؟ | ![]() ترامب والإغلاق الحكومي: القيادة الصعبة في مواجهة أزمة الاقتصاد الأميركي | ![]() لبنان على مفترق طرق: إصلاحات جريئة أم مماطلة مع صندوق النقد الدولي؟ |