فضيحة براءات الذمّة القسرية: ابتزاز المعلمين وسرقة حقوقهم

تطلب بعض المدارس الخاصة اليوم من الأساتذة المقرّرين في الملاك التوقيع على أوراق تسقط حقهم عن السنوات السابقة، وكأنهم أنهوا خدمتهم نهائياً. وتصف النقابة هذا السلوك بأنه محاولة مكشوفة لانتزاع حقوق المعلمين وسرقة تعويضاتهم المتراكمة عبر السنين، في ظل ظروف اقتصادية خانقة تجعلهم بين خيارين أحلاهما مرّ: القبول بالابتزاز أو خسارة الوظيفة
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
تتوالى الأزمات في القطاع التربوي اللبناني، من أزمة الرواتب المتآكلة بفعل الانهيار المالي، إلى التراجع في نوعية التعليم وظروف العمل، وصولاً إلى ما بات يُوصف اليوم بـ”الفضيحة الجديدة” في المدارس الخاصة: إجبار المعلمين على توقيع براءات ذمة قسرية تسقط حقوقهم وتعويضاتهم المتراكمة على مدى سنوات خدمتهم.
في بلدٍ يعيش أساتذته أصعب مرحلة من تاريخه التربوي، تتكشّف يوماً بعد يوم ممارسات إداراتٍ مدرسية تتجاوز القانون والأخلاق، محوّلةً العلاقة التربوية إلى معادلة قسرية عنوانها الخوف من الصرف مقابل التنازل عن الحقوق.
فقد عقد المجلس التنفيذي لنقابة المعلّمين في لبنان اجتماعاً طارئاً خصّص لبحث الشكاوى المتزايدة من عشرات الأساتذة في مختلف المناطق، الذين أفادوا بأنّ إدارات مدارسهم أرغمتهم على توقيع أوراق براءة ذمّة تفيد زورًا بأنهم قبضوا كامل مستحقاتهم المالية عن السنوات السابقة والحالية، في حين أنّ معظمهم لا يزال في الخدمة الفعلية ولم يحصل على أي تعويض.
وتصف النقابة هذه الخطوة بأنّها “تعدٍّ خطير على القوانين والكرامة التربوية، وسابقة لم يعرفها تاريخ التعليم في لبنان”.
مخالفة قانونية وأخلاقية فاضحة
يُجمع المعلّمون والنقابيون على أنّ إرغام الأساتذة على توقيع براءة ذمّة فيما هم لا يزالون على رأس عملهم يشكّل خرقًا واضحًا وصريحًا للقانون.
فبحسب المجلس التنفيذي، لا يحقّ لأي إدارة مدرسية مطالبة المعلّم بمثل هذا التوقيع إلا في حالتين لا ثالث لهما: عند صرفه من الخدمة، وبعد تسديد كامل تعويضه وفق ما تنصّ عليه القوانين أو عند استقالته من العمل وقبضه جميع حقوقه المالية دون انتقاص.
أما ما تقوم به بعض المدارس الخاصة اليوم، فهو إجراء غير قانوني ومخالف للأعراف التربوية، إذ يُطلب من الأساتذة المقرّرين في الملاك التوقيع على أوراق تسقط حقهم عن السنوات السابقة، وكأنهم أنهوا خدمتهم نهائياً.
وتصف النقابة هذا السلوك بأنه “محاولة مكشوفة لانتزاع حقوق المعلمين وسرقة تعويضاتهم المتراكمة عبر السنين، في ظل ظروف اقتصادية خانقة تجعلهم بين خيارين أحلاهما مرّ: القبول بالابتزاز أو خسارة الوظيفة”.
نعمة محفوض: ما يحصل سرقة موصوفة لسنوات خدمة المعلّمين
في هذا السياق، شدّد رئيس نقابة المعلّمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض على أنّ ما يجري “يمسّ جوهر العدالة التربوية والكرامة الإنسانية”.
وقال محفوض في تصريحٍ حادّ اللهجة لموقع “هنا لبنان”: “كثير من المدارس تطلب من الأساتذة توقيع براءات ذمّة وكأنهم أنهوا خدمتهم وقبضوا تعويضاتهم، بينما هم لا يزالون على رأس عملهم وفي الملاك. هذا الأمر لم يحصل في تاريخ البشرية.”
وأوضح محفوض أنّ “توقيع براءة الذمة يجب أن يتمّ فقط بعد صرف المعلّم أو استقالته، وبعد أن يقبض كامل حقوقه، لا قبل ذلك ولا بطريقة قسرية”.
وأضاف: “أن يُطلب من الأستاذ التوقيع على أنّه لا يملك شيئًا عن السنوات السابقة، فهذا يعني حرمانه تاريخ خدمته وتعويضه وحقوقه. كيف يُقال إنّ الأستاذ لا يملك حقًا وهو ما زال يُدرّس يوميًا؟ وكيف يُجبر على توقيع ورقة تُسقط ما لم يُدفع له أصلًا؟ هذه سرقة موصوفة لتعب الناس”.
ولفت محفوض إلى أنّ “بعض المدارس تدفع للأساتذة تعويضات رمزية على أساس سعر صرف ١٥٠٠ ليرة، في وقتٍ يعيش البلد على سعر صرف متحرّك بعشرات آلاف الليرات، معتبراً أنّ ما يُعرض على المعلمين هو مهين ومنافٍ للعدالة”.
وختم قائلًا: “المدرسة التي تحترم نفسها لا تبتزّ معلميها. هؤلاء هم عمادها وسبب استمرارها. لن نسمح بأن تتحوّل المهنة التربوية إلى مساحة إذلال، وسنواجه هذه الممارسات بكل الوسائل القانونية والنقابية.”
تزوير بيانات مالية وتعويضات وهمية
من جهةٍ أخرى، كشفت النقابة أنّ بعض المدارس تُجبر المعلّمين على توقيع البيان المالي الموجَّه إلى صندوق التعويضات بقيمة الحد الأدنى للأجور (٢٨ مليون ليرة لبنانية)، رغم أنّ رواتبهم الفعلية تفوق ذلك بأضعاف.
هذه الخطوة، بحسب البيان، تشكّل تلاعبًا خطيرًا بالبيانات الرسمية، وتؤدي إلى تقليص قيمة التعويضات المستقبلية التي سيحصل عليها الأساتذة من الصندوق عند نهاية خدمتهم.
وذكرت النقابة أنّ عدداً من الإدارات “تبتزّ المعلّمين بحجز الرواتب أو التهديد بفقدان العمل، لإجبارهم على التوقيع تحت الضغط”، مؤكدة أنّ “أي توقيع يتمّ في هذه الظروف لا يُسقط الحقوق قانونيًا، لأنّه تمّ بالإكراه”.
وزارة التربية مدعوّة للتحرّك الفوري
في موقفٍ حازم، حمّل المجلس التنفيذي وزارة التربية والتعليم العالي مسؤولية التحرّك العاجل لوقف هذه الممارسات التي تمسّ جوهر العمل التربوي وحقوق العاملين فيه، داعيًا إلى فتح تحقيقات فورية بحقّ المدارس التي تُمارس الضغط أو التهديد على المعلّمين.
كما طالب المجلس إدارة صندوق التعويضات بعدم قبول أيّ بيان مالي أو مستند صادر عن المدارس الخاصة إلا بعد التأكد من مطابقته للرواتب الحقيقية المدفوعة للأساتذة، “منعًا لتزوير البيانات وضمانًا لعدالة احتساب الحقوق”.
خطوات تصعيدية مرتقبة: النقابة لن تصمت
وأكدت النقابة في ختام بيانها أنّها تستعد لاتخاذ “الخطوات القانونية والنقابية المناسبة” لحماية المعلّمين، بما في ذلك اللجوء إلى القضاء المختصّ ونشر أسماء المدارس المخالفة أمام الرأي العام إذا استمرّت هذه الانتهاكات.
وشدّدت على أنّ الكرامة التربوية خط أحمر، ولا يمكن لأي إدارة أن تحوّل المعلّم إلى رهينة ورقة توقيع”، داعية الأساتذة إلى التمسّك بحقوقهم ورفض أي تواقيع وهمية أو بيانات مالية مزوّرة”.
واختتمت النقابة بيانها بعبارةٍ حملت الكثير من الدلالات: “الكرامة لا تُحتجز، والحقوق لا تُشترى بتوقيعٍ قسريٍّ على ورقةٍ باطلة. وما ينتزع بالضغط لا يسقط بالرضوخ. المعلّم هو أساس المدرسة، ومن دون احترامه لا تعليم ولا وطن”.




