صندوق النقد والحكومة اللبنانية: ديون؟ أيّ ديون؟!

كتب Marc Saikali لـ”Ici Beyrouth“:
يا للقدَر اللبناني! كأنّما كُتب على اللبنانيين العيش في حلقة اقتصادية مفرغة، بطلها “صندوق النقد الدولي”… ذلك “الطبيب” الذي يُفترض به مداواة الاقتصادات المريضة، أثبت من جديد امتلاكه لميزةٍ نادرةٍ: الثبات على الوصفات الممهورة بالفشل. الأيام تتعاقب والحكومات تتبدّل والحروب تشتعل، والبلد يترنّح بين أزمةٍ وأخرى، فيما لا يرفّ للصندوق جفن، ولا يتعب من تكرار الأخطاء نفسها، كأنّما يُدير العالم من خلال ورقة “إكسل”. ومع ذلك، لا يشقى في العثور على آذانٍ صاغيةٍ في لبنان، وتحديدًا في وزارة المالية.
صندوق النقد، الذي يُعالج بالأرقام لا بالنبض، قرّر هذه المرّة إخضاع لبنان لتجربةٍ قاسيةٍ: معالجة المريض… بالاستنزاف!
هي صيغة جديدة من التقشّف، أشبه بعلاجٍ بالنسيان المُحاسبي، تُمحى فيه ديون الدولة من خلال محو ودائع المواطنين في المصارف… عملية نزف مالي تُذكّر بعصور الطبّ المظلمة، حين كان “الأطباء” الدجّالون يُتقنون فنّ قتل المريض باسم الشفاء.
صندوق النقد الدولي يمضي في مشروعه بلا هوادة… بلا تردّد أو خجل، متعاونًا مع الحكومة اللبنانية في تنفيذ وصفته القاتلة: إظهار الدولة بمظهر “السليم” حتى في جسد الاقتصاد المتهالك. لا شيء مهم بقدر الأرقام التي تعكس التعافي، ولو كان الثمن إفلاس المودعين وانهيار النظام المصرفي. الهدف المُعلن؟ تطهير دفاتر الدولة من الديون. والمستتر؟ نقل الكلفة إلى المصارف والمودعين.
وعِوضًا عن التركيز على جذر الدّاء الحقيقي، أي فساد الدولة وعقودٍ من الهدر العام، يختار صندوق النقد الطريق الأسهل: تلميع الواجهة. فيُقدَّم للبنانيين مشهد الدولة الخالية من الديون، المتزيّنة بمساحيق “المصداقية” الزائفة، فيما تُحوَّل ودائع المواطنين إلى مجرّد أرقام لتعديل الميزان، وتُمحى مدّخراتهم كأنّها لم تكن أصلًا.
والمُضحك المُبكي أنّ هذه المقاربة تناقض حتى عقيدة الصندوق نفسه. ففي كل مكانٍ من العالم، يبدأ “الإصلاح” من تفكيك القطاع العام المترهّل والمتضخّم… ذاك الأخطبوط الذي يبتلع موارد الدولة. ولبنان، بطبيعة الحال، خير نموذج: جهاز إداري مثقل بالموظفين… الذين لا يُدينون في مناصبهم للكفاءة، بل للانتماء الطائفي أو الولاء السياسي. وبدلًا من تطهير مواقع الفساد والهدر، يوجّه صندوق النقد ضرباته الحادّة إلى القطاع الخاصّ… ذلك الشريان الأخير الذي لا يزال يُبقي لبنان واقفًا على قدمَيْه، ويُستنزف دم اللبنانيين المالي باسم “الإصلاح”.
صندوق النقد الدولي عازم، على ما يبدو، على إثبات أنّه لا يقلّ مثابرةً عن الدولة اللبنانية في فنّ عدم التعلّم من الأخطاء. كان بإمكانه أن يحمل لواء الشفافية والدعوة إلى الإصلاح والسعي لتنظيف النظام المالي من شوائبه، لكنّه اختار طريقًا آخر: إضفاء الشرعية على الإفلاس الأخلاقي، تحت اسم لامع يُخفي العفن والفساد: “قانون الفجوة” (Gap Law).
لبنان، وطن المصارف والثقة في يومٍ من الأيام، تحوّل إلى مختبرٍ للنسيان الاقتصادي. وفي هذا المختبر، يلعب صندوق النقد وحلفاؤه دور الكيميائيين المجانين، يخلطون “محاليل إنقاذ” لا تُنقذ إلّا على الورق، فيما يذوي المجتمع اللبناني ويتلاشى تدريجيًا، بتواطؤ فاضح من بعض من تُفترض بهم القيادة.
كم صدق الفيلسوف الفرنسي الساخر نيكولا شامفور بقوله: “حين لا تتوفر نيّة الشفاء، تستحيل كلّ العلاجات سُمومًا”.
مواضيع ذات صلة :
صندوق النقد ليس ضرورة … أورتاغوس تضع لبنان أمام معادلة جديدة | أورتاغوس: صندوق النقد ليس الخيار الوحيد (فيديو) | قانون السرّية المصرفيّة: إصلاح مزعوم وابتزاز تحت مسمًّى قانونيّ! |




