“البنك الدولي” يتحدث عن 5% نموّ… تفاؤل على الورق أم مؤشرات حقيقية؟!

تحقيق التعافي الكامل يتطلّب الحفاظ على نموّ يقارب 5% سنويًا بشكلٍ متواصلٍ، وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق من دون إصلاحات بنيوية جدّية، وحصر السلاح بيد الدولة، واستقرار أمني وسياسي دائم. وفي حال توفّرت هذه الشروط، يمكن للبنان أن يبدأ مسار تعافٍ تدريجيّ يُعيد إليه جزءًا من ديناميكيته الاقتصادية المفقودة.
كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:
في وقتٍ يزور فيه وفد من “البنك الدولي” بيروت لإجراء سلسلة لقاءاتٍ مع المسؤولين اللبنانيين، تتجدّد النقاشات حول واقع الاقتصاد المحلي واتجاهاته في المرحلة المقبلة، خصوصًا في ظلّ بحث الوفد في برامج دعم وتمويل جديدة للبنان.
وبالتزامن مع هذه الزيارة، أصدر البنك الدولي تقريره الأخير الذي أشار فيه إلى أنّ الاقتصاد اللبناني قد يسجّل نموًّا بنسبة 5% هذا العام. لكن هذا الرقم يُثير تساؤلاتٍ مشروعةً: هل يعكس فعلًا الواقع الاقتصادي في ظلّ الأزمات المستمرّة؟ وما الأسّس التي استند إليها البنك الدولي في تقديراته؟
وفي حديثٍ مع كبير الاقتصاديين والباحث الاقتصادي مروان بركات، أكّد أنّ نسبة النمو التي توقّعها البنك الدولي للبنان تُعتبر منطقيةً، وهي مبنية على دراسات ومعطيات واقعية. فوفق النموذج الاقتصادي المُعتمد، سجّل لبنان خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي نسبة نموّ تقارب 5% مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، وذلك انطلاقًا من قاعدة متدنّية في العام 2024 نتيجة الحرب.
وأوضح بركات أنّ مؤشرات القطاع الحقيقي تعكس هذا الأداء الإيجابي بوضوح، إذ شهدت ارتفاعًا لافتًا في معظم القطاعات مقارنةً بالعام السابق. وتشمل هذه المؤشّرات حركة المطار لجهة عدد الوافدين والمغادرين، وحركة المرافئ لناحية الاستيراد والتصدير، إضافةً إلى رخص البناء، والقطاع العقاري، وحجم عمليات التسجيل العقارية.
كلّ هذه المؤشرات، بحسب بركات، تُظهر تحسّنًا ملحوظًا، ما يُعزّز واقعية تقدير البنك الدولي بنسبة نموٍّ تبلغ نحو 5% خلال العام الجاري.
ودائمًا بحسب البروفيسور بركات، فإنّ أبرز ما يُسجَّل هذا العام هو نموّ الاستيراد بنسبة 12% خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي. ويُشير بركات إلى أنّ جزءًا من هذا النموّ يعود إلى التضخّم المستورد، أي إلى ارتفاع الأسعار في الدول التي يستورد منها لبنان، وليس إلى زيادةٍ فعليةٍ في الكميات.
ولتحليل ذلك بدقّة، تمّ احتساب معدّلات التضخّم في أبرز الدول المصدّرة للبنان، ليُستنتج متوسّط تضخّم مستورد يقارب 5.3%. وبالتالي، وبعد حسم هذه النسبة من إجمالي نموّ الاستيراد البالغ 12%، يتبيّن أنّ النموّ الفعلي في الاستيراد يصل إلى نحو 6.7%.
ويُفسّر بركات هذا الرقم بأنّه دليل على زيادة الطلب الحقيقي على السلع في السوق اللبنانية، سواء الاستهلاكية أو الاستثمارية، خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. هذا الأداء، برأيه، يُعزّز فرضية تسجيل الاقتصاد اللبناني نسبة نموّ فعلي تقارب 5% خلال عام 2025، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنّ مؤشرات القطاع الحقيقي تُعدّ جيدةً ولكن غير ممتازةٍ، إنّما مقبولة بالنظر إلى القاعدة المتدنّية التي انطلق منها الاقتصاد في العام الماضي.
وشدّد بركات على أنّ التحدّي الأبرز اليوم يتمثّل في الحفاظ على وتيرة النموّ الحالية، إذ ما زال أمام العام شهران حاسمان قبل نهايته. ويُحذّر من أنّ أي اهتزاز أمني مُحتمل قد ينعكس سلبًا على نشاط موسم الأعياد، ما قد يؤدّي إلى تراجع الحركة الاقتصادية خلال هذه الفترة الحسّاسة، وبالتالي إلى عدم تحقيق نسبة النموّ المتوقّعة البالغة 5%. ويرى أنّ هذا يشكّل تحدّيًا أساسيًا أمام الاقتصاد اللبناني على المدى القصير.
أمّا على المدى المتوسط، فيؤكّد بركات أنّ التحدّي الأكبر يكمن في الحفاظ على معدّلات نموّ مستدامة خلال السنوات المقبلة، بما يسمح للاقتصاد اللبناني بالعودة إلى حجمه الذي كان عليه قبل الأزمة المالية عام 2019، حين بلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 53 مليار دولار.
ويُشير إلى أنّ حجم الاقتصاد اليوم يُقدَّر بنحو 43 مليار دولار، بعدما كان قد تراجع في أدنى مراحله إلى ما دون 20 مليار دولار، ما يعني أنّ الاقتصاد لا يزال أصغر بنحو 20% من مستواه قبل الأزمة.
ويُضيف بركات أنّ تحقيق التعافي الكامل يتطلّب الحفاظ على نمو يقارب 5% سنويًا بشكلٍ متواصلٍ، وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق من دون إصلاحات بنيوية جدّية، وحصر السلاح بيد الدولة، واستقرار أمني وسياسي دائم. وفي حال توفّرت هذه الشروط، يمكن للبنان أن يبدأ مسار تعافٍ تدريجي يُعيد إليه جزءًا من ديناميكيته الاقتصادية المفقودة.




