السياسة في زمن السلاح: لبنان بين الحرب والعزلة


خاص 10 تشرين الثانى, 2025

 

“الحزب” الذي تحوّل قراره العسكري إلى وظيفةٍ سياسية لحساب المحور الإيراني، أفقد سلاحه مبرّر “المقاومة” وتحوّل إلى عبءٍ على وطنٍ يُستدرج يومياً إلى هاويةٍ جديدة.. فلا التفاهمات الدولية تعني له شيئاً، ولا قرارات مجلس الأمن تُلزمه، ولا الأصوات اللبنانية التي تطالب بوقف الاستنزاف تُصغي إليها قيادته

كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان” :

منذ قرنين، صاغ المنظّر العسكري البروسي كلاوزفيتس مقولته الشهيرة: “الحرب ليست سوى استمرارٍ للسياسة بوسائل أخرى”. غير أنّ ما كان توصيفاً للعلاقات بين الدول، تحوّل في لبنان إلى واقعٍ معكوس؛ إذ باتت الحرب سياسةً بحدّ ذاتها، والسياسة مجرّد غطاءٍ لاستدامة السلاح. في بلدٍ أرهقته الصراعات، يظهر حزب الله اليوم كفصيلٍ يتقن لغة الحرب ويجهل أبجديات الدبلوماسية، متمسّكاً بمعادلةٍ تُبقي لبنان رهينة منطق المواجهة، وتمنع قيام دولةٍ تحتكر قرارها السيادي.

منذ تصاعد وتيرة الحرب في غزة، لم يتوانَ حزب الله عن فتح جبهةٍ موازية في الجنوب، تحت ذريعة “المساندة” و”الردع الاستباقي”، فيما الحقيقة أنّ تلك المشاغلة المتقطعة قدّمت لإسرائيل الذرائع التي لا تحتاجها أصلاً لاستباحة الأجواء والحدود اللبنانية، وتصفية قيادات الحزب. وما رفض الحزب وضع حدٍّ لهذا النزيف المستمر، سوى خدمة لإسرائيل وتعزيزٌ لموقع إيران في لعبة النفوذ الإقليمي الآيلة إلى التبلور. فحزب الله، الذي تحوّل قراره العسكري إلى وظيفةٍ سياسية لحساب المحور الإيراني، أفقد سلاحه مبرّر “المقاومة” وتحوّل إلى عبءٍ على وطنٍ يُستدرج يومياً إلى هاويةٍ جديدة.

يبدو الحزب اليوم محكوماً بمقولته الكلاوزفيتسية الخاصة: الحرب غاية لا وسيلة. وهو بذلك يعيد إنتاج دور الميليشيا التي ترى في السلاح هويةً ووجوداً، لا وسيلةً دفاعية. فلا التفاهمات الدولية تعني له شيئاً، ولا قرارات مجلس الأمن تُلزمه، ولا الأصوات اللبنانية التي تطالب بوقف الاستنزاف تُصغي إليها قيادته. بهذا المعنى، يعيش لبنان مأساة دولةٍ رهينةٍ لدويلةٍ تجرّه من جبهةٍ إلى أخرى، وتحوّل أراضيه إلى منصّةٍ لتصفية الحسابات الإقليمية بين طهران وواشنطن.
في المقابل، يمكن النظر إلى المشهد السوري بوصفه مثالاً معاكساً، ولو على نحوٍ رمزيّ. فدمشق التي عاشت عزلةً طويلة بعد حربٍ دامت 14 عاماً، عادت إلى الساحة الدولية عبر بوابة واشنطن، وهي بصدد توقيع اتفاقٍ أمنيّ مع إسرائيل يرمي إلى إعادة الاستقرار إلى سوريا. ورغم ما يمكن أن يُقال عن الحسابات الأميركية أو البراغماتية السورية، إلا أنّ دمشق لا بل سوريا الجديدة، أدركت أنّ بقاء الدولة لا يقوم على السلاح وحده، بل على القدرة على التفاوض والاعتراف بواقعٍ إقليميّ جديد يقوم على الأمن المشترك لا الحرب الدائمة.

وبينما تلتحق سوريا بقطار التسويات وتستعدّ لإعادة الإعمار، ينتهج لبنان سياسياً دور النعامة، أسيرَ معادلاتٍ وُضعت في طهران. فبدل أن يكون “لبنان – الرسالة”، سبّاقاً في إرساء نهج التعايش والسلام بين شعوب المنطقة، سبقته سوريا في بلورة شبكة مصالحٍ عربية – غربية ضد الإرهاب والتطرف، فيما ينفرد حزب الله بإبقاء لبنان في عزلةٍ مدمّرة. يهوّل الحزب على المسؤولين اللبنانيين لفرض إملاءاته على الحكومة ومنعها من مفاوضة إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يمنح إسرائيل الذرائع اللازمة لاستباحة السيادة اللبنانية. يرفع شعار المقاومة، لكنه يقاوم كل محاولة لبناء دولةٍ تمتلك قرار الحرب والسلم. وقد بات واضحاً أن ما يُحرّمه على الحكومة يسعى إلى ممارسته بنفسه، عبر استدعاء انتباه إسرائيل إلى التفاوض معه وتجديد قواعد الاشتباك على طريقته.

لقد آن الأوان ليتحرّر لبنان من هذه المفارقة القاتلة: مقاومةٌ بلا مشروعٍ سياسي، وسلاحٌ بلا أفقٍ وطني. فالدول لا تُبنى بالشعارات ولا بالبيانات النارية، بل بالقدرة على تحويل القوة إلى نفوذٍ سياسيّ يخدم مصلحة لبنان، لا الإملاءات الخارجية.
السلام ليس ضعفاً كما يحاول البعض تصويره، بل شجاعةُ الاعتراف بأنّ الأمن الحقيقي لا يُصنع بالصواريخ بل بالمؤسسات، ولا يتحقق بالعنتريات بل بالتفاوض.
إنّ المصلحة اللبنانية اليوم تقتضي الخروج من عباءة المحاور، والانخراط في مشروعٍ عربيّ متكامل يستبدل لغة الحديد والنار بلغة الحوار والمصالح المشتركة.
فكلّ رصاصةٍ تُطلق على الجنوب تُبعد لبنان خطوةً عن استقراره، وكلّ موقفٍ متصلّبٍ يعزّز قبضة الخارج على قراره الداخلي. لقد أثبت التاريخ أنّ من يظنّ الحرب وسيلةً للسياسة، ينسى أن نهايتها الحتمية تكون سقوط الدولة.

الخلاص الوحيد يكمن في استعادة الدولة اللبنانية سيادتها الكاملة، ووضع السلاح تحت سلطتها، والشروع في التفاوض البنّاء لحلّ المعضلة العالقة مع إسرائيل. فكما تغيّرت مقاربة الدول من حولنا، يجب أن تتغيّر المقاربة اللبنانية أيضاً. فالمقاومة حين تحاول قضم مشروع قيام الدولة، تقود لبنان إلى العزلة، والحربُ المتواصلة ليست رمزاً للقوة بل وصفةٌ أكيدة للدمار. وحدها السياسة، كما أرادها كلاوزفيتس يوماً، حين تُمارس بوسائلها المشروعة، قادرة على حماية وطنٍ يليق بالحياة ويعيش بكرامةٍ وسلام.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us