سوريا: من دولة منبوذة إلى نجمة البيت الأبيض!

ترجمة هنا لبنان 12 تشرين الثانى, 2025

ترجمة “هنا لبنان”

كتب Mario Chartouni لـ”Ici Beyrouth“:

في مشهدٍ شبه مستحيل قبل سنوات قليلة، يستقبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاثنين المقبل نظيره السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض. اللقاء يحمل من الرمزية ما يفوق أي اتفاق سياسي أو خطاب دبلوماسي، حيث يطوي نصف قرن من القطيعة بين دمشق وواشنطن، ويطبع نهاية مرحلةٍ طويلةٍ شكلت سوريا فيها مرادفًا للعزلة والعقوبات والعداء.

ومنذ استقلال سوريا عام 1946، لم تطَأ قدما رئيس سوري عتبة البيت الأبيض. ويُجسِّدُ هذا الحدث المرتقب نهاية نصف قرنٍ من العداء بين دمشق وواشنطن، وذلك بعد أن كانت سوريا طوال عقودٍ، واحدةً من أكثر دول العالم عزلة، ومصنّفة كبؤرة للإرهاب ومنصةً للنفوذ الإيراني والروسي في قلب الشرق الأوسط.

من العداء الإيديولوجي إلى اختبار الثقة

منذ سبعينيّات القرن الماضي، برزت سوريا في عهد حافظ الأسد كإحدى القلاع الرئيسية للمعسكر السوفياتي وركيزة أساسية لما كان يُعرف بـ”محور المقاومة” ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة. آنذاك، رأت واشنطن في دمشق قوةً معاديةً للغرب، ترفض أي شكل من أشكال التسوية أو التفاهم.

وأدّى الدعم المستمرّ الذي قدّمته سوريا للفصائل الفلسطينية المسلحة، ولحزب الله وحماس، إلى إدراجها عام 1979 على اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.

ومنذ ذلك الحين، باتت أي علاقة ثنائية رفيعة المستوى مستحيلة؛ وكان استقبال رئيس سوري في البيت الأبيض سيُعتبر خرقًا لمبادئ القانون الأميركي نفسه. وحسب مركز “The Washington Institute” الأميركي، جمّد هذا الوضع القانوني، مقرونًا بالإيديولوجيا المعادية للغرب، موقع دمشق لعقودٍ طويلة كـ”عدوٍّ بنيويّ” بنظر واشنطن.

بشار الأسد والقطيعة التامة

لم يُحدث وصول بشار الأسد إلى الحكم عام 2000 أي تغيير في المسار. فقد عمّق تحالفاته مع طهران وموسكو، وتدخّل عسكريًا في لبنان، وقدم دعمًا واسعًا للميليشيات الشيعية في العراق، ليصبح جزءًا محوريًا في المنظومة الإيرانية داخل المنطقة. وتشير مؤسسة “Brookings Institution” الأميركية إلى أنّ اندلاع الحرب الأهلية عام 2011 حوّل سوريا إلى دولةٍ منبوذةٍ عالميًا: أكثر من 400 ألف ضحية، و13 مليون نازح، واستخدام للأسلحة الكيميائية، وتعذيب ممنهج.

ثم أحكم قانون قيصر الذي أُقرّ عام 2020 القبضة القانونية على أي تقارب محتمل. ولم تستطع واشنطن أن تستقبل بشار الأسد من دون أن تُضفي شرعيةً على مجرم حرب، الأمر المرفوض سياسيًا لأي رئيس أميركي. وفي تلك المرحلة، باتت سوريا مرادفًا للقمع والتحالف مع إيران وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية… دولة مغلقة على نفسها، محكومة بالعزلة ومحمولة على إرثٍ من الدم والحديد.

العقدة الإسرائيلية وسقوط الأسد

إلى جانب الاعتبارات الأخلاقية والأمنية، يُسجَّل عامل جيوسياسي حاسم: لم توقّع سوريا يومًا اتفاق سلام مع إسرائيل. فمنذ عام 1948، بقي البلدان في حالة حربٍ رسمية، وبقيت قضية الجولان المحتلّ عقدة النزاع الكبرى بينهما.

وفي هذا السياق، تشير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) إلى رفض دمشق الانخراط في مفاوضات مباشرة، وتمسّكها بخطاب “المقاومة” ضدّ إسرائيل.

وفي ظلّ التزام واشنطن التاريخي بأمن إسرائيل، استحال استقبال رئيس سوري في البيت الأبيض. واقتصر الحوار على قنوات غير مباشرة، غالبًا عبر وساطات سويسرية أو تركية، ما جعل الجبهة السورية – الإسرائيلية حاجزًا ثابتًا أمام أي تقارب دبلوماسي طوال نصف قرن.

زلزال 2024 السياسي

لكنّ زلزال كانون الأول 2024 السياسي قلب المعادلة: انهيار نظام الأسد. شكّل ذلك، حسب “Atlantic Council”، سقوطًا تدريجيًا لدولة منهكة بالفساد والحرب، تآكلت مؤسّساتها وانفرط عقدها الداخلي.

وفي هذا الفراغ السياسي، برز أحمد الشرع (القائد السابق لإحدى الميليشيات الإسلامية) كرجل المرحلة الانتقالية. وبدا الوجه الجديد مغريًا بشكلٍ مفاجئ لواشنطن: فهو يمثّل مرحلة ما بعد الأسد، مُناهض لإيران، مُنفتح على الحوار، ويحمل رغبةً معلنةً في إعادة بناء بلاده.

وللمرة الأولى منذ نصف قرن، يتحدّث رئيس سوري بلغة التأهيل لا المواجهة. صحيفة “فايننشال تايمز” وصفته بأنّه براغماتي يقود “هجومًا دبلوماسيًا ناعمًا” على العواصم الغربية، واعدًا بإصلاحات اقتصادية، وانفتاح سياسي، وتعاون وثيق في مكافحة الإرهاب.

تقاطعات جديدة مع واشنطن

تأتي المحادثات الأخيرة بين أحمد الشرع ودونالد ترامب في سياق تقاربٍ غير مسبوقٍ بين دمشق وواشنطن. فـسوريا تستعدّ للانضمام إلى التحالف الدولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية — خطوة رمزية كبرى بعد سنواتٍ من الغموض في موقفها من التيارات الجهادية.

ووفقًا لتقارير “معهد واشنطن”، التزمت دمشق أيضًا بحماية الأقلّيات، وإخراج المقاتلين الأجانب من مفاصل الدولة، وفتح مفاوضات أمنية مع إسرائيل حول إقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب.

خطواتٌ كهذه (مستحيلة في عهد أسرة الأسد) أقنعت واشنطن بأنّ الوقت قد حان لاختبار صدقية النظام الجديد. ففي نظر الإدارة الأميركية، سوريا أحمد الشرع لم تعد جزءًا من “محور المقاومة” بل شريكًا مُحتملًا في الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب.

رهان دبلوماسي محفوف بالمخاطر

لكنّ هذا اللقاء لا يعني، وفقًا لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD)، تطبيعًا كاملًا بعد. فسوريا لا تزال مدرجةً على لائحة الدول الداعمة للإرهاب، والكونغرس يشترط على البيت الأبيض تقديم تقرير نصف سنوي يقيّم مدى التقدّم في إصلاحات الحكومة السورية.

ومع ذلك، تبقى الرمزية قوية: للمرة الأولى، ترى واشنطن أنّ زعيم دمشق يُشاركها ما يكفي من المصالح المشتركة ليُستقبل رسميًا في البيت الأبيض. هي مكافأة واختبار في آنٍ معًا… اختبار لمدى قدرة الشرع على إثبات القطيعة مع النظام السابق، وضبط الميليشيات، وحماية الأقليات، والحفاظ على استقرار بلدٍ ما زال هشًّا وممزقًا.

في الختام، على مدى أكثر من نصف قرن، أُغلقت أبواب البيت الأبيض بوجه سوريا: حافظ وبشار الأسد شكّلا رموزًا للطغيان والديكتاتورية والحرب والتحالف مع أعداء واشنطن. أمّا الشرع فيمثل، على الرغم من ماضيه المُثير للجدل، تحوّلًا تاريخيًا: زعيمٌ اختار الدبلوماسية بدل العزلة، والتعاون بدل المواجهة.

وعلى الرغم من أنّ زيارته إلى واشنطن لن تُنهيَ صراعات الشرق الأوسط، فهي تُكرّس تحوّلًا في الزمن السياسي: للمرة الأولى، لا يُنظر إلى رئيس سوري كعبءٍ يجب احتواؤه، بل كشريكٍ يمكن محاورته. وبعد نصف قرنٍ من القطيعة والعداء، تجتاز سوريا عتبة البيت الأبيض… ومعها، تُطوى صفحة كاملة من الحرب الباردة في المنطقة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us