“أزمة سوبر نظامية”: هل يمكن إنقاذ القطاع المصرفي قبل سقوط الهيكل المالي؟!


خاص 15 تشرين الثانى, 2025

تتباين آراء المسؤولين والخبراء الذين تابعوا الأزمة منذ بداياتها، لكنّهم يلتقون على حقيقة أساسية مفادها أنّ لبنان يواجه أزمةً “نظاميةً” شاملةً لا يمكن التعامل معها بأدوات تجميلية أو حلول جزئية.

كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:

يشهد لبنان منذ أكثر من ست سنوات واحدةً من أعقد الأزمات المالية والاقتصادية في تاريخه الحديث، أزمة تجاوزت حدود الانهيار النقدي والمصرفي لتلامس عمق بنية الدولة ومؤسّساتها. تداخلت فيها عوامل الفساد والهدر وسوء الإدارة، مع غياب السياسات الإصلاحية وتراكم الإخفاقات التشريعية، فانهار النظام المصرفي وتبخّرت الثقة بين الدولة والمودعين، فيما بقيت الخطط الحكومية المُتعاقبة عاجزةً عن تقديم معالجة شاملة. وعلى الرغم من كثرة المُبادرات، ظلّ النقاش يدور في حلقةٍ مفرغةٍ بين مقاربات متضاربة، تارةً تُحمّل المصارف وحدها مسؤولية الخسائر، وتارةً أخرى تضع العبء على الدولة أو على مصرف لبنان، من دون أن يتبلور إطار موحّد يُوزّع الأعباء بعدالةٍ ويُعيد انتظام الحياة الاقتصادية. وفي ظلّ هذا التخبّط، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن إنقاذ ما تبقى من الاقتصاد اللبناني وإعادة بناء قطاعه المالي على قواعد سليمة، أم أنّ البلاد تتّجه نحو نموذج انهيار طويل الأمد؟

في هذا السياق المأزوم، تتباين آراء المسؤولين والخبراء الذين تابعوا الأزمة منذ بداياتها، لكنّهم يلتقون على حقيقة أساسية مفادها أنّ لبنان يواجه أزمةً “نظاميةً” شاملةً لا يمكن التعامل معها بأدوات تجميلية أو حلول جزئية. وفي محاولةٍ لتشريح الواقع وتقديم رؤى بديلة، يطرح كلّ من وزيرَيْ الاقتصاد الأسبقَيْن آلان حكيم ورائد خوري، والخبير الاقتصادي نديم السبع، مقارباتٍ مختلفةً من حيث التفاصيل، لكنّها تتقاطع في تشخيص جُذور الانهيار وضرورة استعادة الثقة وإرساء سياسات قانونية واقعية.
حديثهم لموقع “هنا لبنان” يُضيء على مكامن الخلل، ويحدّد الشروط التي يعتبرونها لازمةً لنجاح أي خطة تعافٍ، كما يرسم خطوطًا فاصلةً بين ما يمكن إصلاحه وما قد يقود إلى انهيار أكبر. وفيما يلي أبرز ما جاء في مداخلاتهم.

آلان حكيم

وزير الاقتصاد الأسبق آلان حكيم شدّد على أنّ إعادة تكوين الاقتصاد اللبناني، ولا سيما القطاعين المالي والمصرفي، لا يمكن أن يقوم إلّا على مجموعة مبادئ أساسية، أبرزها احترام القانون، وحماية الملكية الخاصة، واستعادة الثقة بالنظام المالي، وتحديد آليات واضحة لتوزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف. ورأى أنّ أيّ خطة تعافٍ تغيب عنها هذه الأسس “محكومة بالفشل”، وهو ما يفسّر برأيه تعطّل الحلول لأكثر من ست سنوات.
وأكد حكيم أنّ التعامل مع المودعين يجب أن يكون أولويةً في أي مسار، يليها تنظيم العلاقة بين مختلف مكوّنات الحلقة المالية والاقتصادية، لافتًا إلى أنّ غياب الشفافية والحوْكمة الرشيدة ما زال من أبرز العوائق أمام المعالجات الجدّية.
وفي توصيفه لطبيعة الأزمة، أوضح أن لبنان يواجه “أزمة هولستيك، نظامية ومؤسساتية في آنٍ”، لا يمكن معالجتها من دون إشراك جميع الجهات المعنية، وفي مقدمتها الدولة التي تتحمّل مسؤوليةً تجاه المصارف ومصرف لبنان والمودعين على حدٍّ سواء.

وحول دور المؤسّسات القانونية، شدّد حكيم على أنّ إعادة الثقة بالقطاع المصرفي تمرّ عبر الالتزام بقرارات المؤسّسات الدستورية والقضائية، مثل المجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة، محذّرًا من أنّ تجاوزها “يُضعف الشرعية ويقوّض أي خطة تعافٍ”. كما لفت إلى أنّ احترام القرارات الدولية والتنسيق بين المؤسّسات المالية اللبنانية والخارجية يشكّلان شرطًا أساسيًا لإعادة الاستقرار القانوني والاقتصادي.
وكرّر حكيم أنّ الحلّ لا يمكن أن يأتي من طرف واحد، بل يتطلّب تعاونًا كاملًا بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف، على قاعدة “واقعية المشكلة وواقعية الحل”. ورأى أنّ الشراكة بين اللاعبين المحليين، مدعومةً بخطوات خارجية، هي المسار الوحيد القابل للتطبيق. وفي هذا الإطار، جدّد تأكيده أنّ المصارف الجديدة ليست مسؤولةً عن خسائر الماضي، إلّا في حال دمج أو استحواذ ضمن إطار قانوني واضح، معتبرًا أنّ طرح مصارف جديدة كحلٍّ سريعٍ لا يمكن أن يكون بديلًا من خطة شاملة، لأنّ رؤوس الأموال الجديدة تأتي للاستثمار في المستقبل لا لتغطية خسائر الماضي.
وحذّر من أي محاولة لإطاحة رساميل المصارف القائمة من دون خطة، معتبرًا أن ذلك يعني “هدم الهيكل المالي على رؤوس الجميع، وفي مقدمهم المودع”. وسأل: “من سيتكفّل بإعادة أموال المودعين؟”، مشدّدًا على ضرورة إعادة تمويل المصارف القائمة التي ما زالت تحتفظ بعلاقاتٍ مع المصارف المُراسلة وعقود ثقة مع الخارج، بما يمكّنها من إعادة الودائع تدريجيًا وعلى مدى طويل.
ولفت إلى أنّ الاستقرار المالي يبدأ بإعادة الثقة بين الدولة والمودعين، عبر خطةٍ واضحةٍ تضمن ضخّ السيولة في المصارف وحماية أموال المواطنين، مشيرًا إلى أنّ الملاءة متوفرة في القطاع، لكنّ المشكلة تكمن في السيولة المفقودة، وأنّ الحلول المُجتزَأة والشعبوية لا تُعيد الأموال ولا تنقذ قطاعًا مترابطًا مع الدولة ومصرف لبنان.
وختم حكيم بالتأكيد أنّ أيّ إصلاح اقتصادي أو مالي يفقد معناه في غياب السيادة الكاملة للدولة، قائلًا: “لا يُمكن تحقيق أي نهوض من دون معالجة مسألة السلاح غير الشرعي ووضع الدولة في موقعها الطبيعي وسيادتها الكاملة”.

رائد خوري

من جهته، شدّد وزير الاقتصاد الأسبق رائد خوري على أنّ حماية ما تبقّى من القطاع المصرفي تبدأ بالاعتراف بأنّ المصارف اللبنانية هي “كيانات قائمة” (Going Concern) وليست مؤسّسات مفلسة، محذّرًا من أنّ أي مقاربة مخالفة ستقود إلى نتائج مُدمّرة. وأوضح أنّ التعامل مع المصارف كجهاتٍ شبه مفلسة يؤدي إلى “محوٍ شاملٍ للقيمة” يُطاول المودعين والقطاع برمّته، من رؤوس الأموال إلى الموارد البشرية والبنى التكنولوجية.
وأشار خوري إلى أنّ تفكيك قطاع مصرفي بُني خلال سبعة عقود يعني العودة إلى نقطة الصفر، وأنّ إعادة إنشائه ستتطلّب سنوات طويلة، فضلًا عن خسارة العلاقات مع المصارف المُراسلة. وشدّد على أنّ الدولة مطالَبة بقوانين تمكّن المصارف من الوقوف على قدميها، مؤكدًا أن العلاقة بين النمو الاقتصادي وتعافي القطاع المصرفي عضوية ومُتبادلة: “حين ينمو الاقتصاد تتعافى المصارف، وحين تكون المصارف سليمة يشتدّ عود الاقتصاد”.
ودعا خوري إلى وضع رؤيةٍ اقتصاديةٍ واضحةٍ تقوم على تنشيط القطاعات المُنتجة، بما يتيح إعادة بناء الثقة وإعادة الودائع تدريجيًا ضمن جداول زمنية واقعية، مُشدّدًا في الوقت نفسه على أنّ القوانين وحدها لا تكفي ما لم تُبْنَ على تفاهم شامل بين الدولة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي. واعتبر أنّ استمرار الخلافات بعد ست سنوات على الأزمة دليل على غياب المُقاربة الشاملة، قائلًا: “ما زلنا نناقش ما إذا كانت الأزمة نظامية أم لا، فيما هي أزمة نظامية بامتياز، بل سوبر نظامية”.

ورأى أنّ “إنكار الطابع النظامي للأزمة يعكس مصالح تسعى إلى تحميل المصارف وحدها المسؤولية، على الرغم من أنّها متضرّرة أيضًا، مشيرًا إلى أنّ المصارف أصحاب حقّ لأنها أودعت أموالها لدى المصرف المركزي وسلّفت الدولة التي تخلّفت عن السداد.
وحذّر من خطورة تجاهل قرارات المجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة، معتبرًا أنّ إصدار الحكومة مشاريع قوانين مُخالِفة يقوّض الثقة ويهزّ أساس الشرعية، ويُشكّل رسالةً سلبيةً للمستثمرين”.
وأكد خوري أن “احترام المرجعيات القانونية شرط لاستعادة ثقة المستثمرين، كما أن وحدة الموقف اللبناني ضرورية في التعامل مع صندوق النقد الدولي.

وفي هذا السياق، انتقد مقاربة صندوق النقد الدولي التي تتعامل مع الأزمة وكأنّها غير نظامية، داعيًا إلى تفاوض ذكي يُوازن بين متطلبات الصندوق وخصوصيّة الوضع اللبناني. وشدّد على “ضرورة الاستجابة لهواجس الصندوق المتعلقة باستدامة دَيْنِ الدولة، مع تحييد علاقة المصارف بمصرف لبنان عن أي إملاءات خارجية قد تعقّد الأزمة”.
وحذّر خوري من أيّ “خطوة لتصفير رؤوس أموال المصارف القائمة”، مؤكدًا أن ذلك يعني “موت الاقتصاد”، لأن استقطاب أي مصرف جديد سيُصبح مستحيلًا في قطاعٍ منهارٍ مثقلٍ بالالتزامات. ووصف هذا السيناريو بأنّه “كارثي يجب تجنّبه بأي ثمن”.

نديم السبع

أمّا الخبير الاقتصادي نديم السبع، فرأى أنّ “حماية أي قطاع في لبنان، وفي مقدمتها القطاع المصرفي، تنطلق من الدستور الذي يصون الحريات الفردية ويحمي الملكية الخاصة ويدعم الاقتصاد الحر”.
وأوضح أن “حماية المصارف ليست حمايةً لها ككِيانات، بل حماية للنظام الدستوري وللركائز الأساسية للاقتصاد، خصوصًا أنّ المصارف مرتبطة مباشرةً بأموال المودعين”. وأضاف أنّ “القطاع المصرفي يعمل تحت مظلّة الدولة كما في كل دول العالم، ولا يمكن لأي مؤسّسة مالية أن تعمل خارج الإطار القانوني”.

وأكّد السبع “أن الأزمة “نظامية شاملة” تُطاول مختلف القطاعات من التجزئة إلى التأمين والعقار والتعليم والاستشفاء، وبالتالي لا يمكن تحميل طرف واحد المسؤولية”. ورأى أن الدولة تتحمّل جزءًا أساسيًا من الخسائر نتيجة الهدر والفساد وسوء الإدارة، كما يتحمّل جزءًا كل من مصرف لبنان والمصارف، لكن لا يجوز رمي العبء كاملًا على القطاع وحده”.

وردًّا على الطروحات المتعلقة بشطب رساميل المصارف، شدّد السبع على أنّ هذا الإجراء يضرب القطاع والمودعين معًا، سائلًا: “أيّ مستثمر سيأتي ليؤسّس مصرفًا في بلدٍ شُطبت فيه الرساميل بهذه الطريقة؟ فالدولة هي التي تسبّبت بالأزمة ولا يمكنها الهروب من مسؤولياتها بتحميل القطاع وحده الكلفة”.

وأشار إلى أنّ “المسار الذي يطرحه صندوق النقد حاليًا يقوم على ضرب القطاع المصرفي، ما ينعكس حكمًا على الدولة والمودعين”، مؤكدًا أن خطة الصندوق ليست الخيار الوحيد. واعتبر أن لبنان قادر على تقديم مسارات بديلة تقوم على إصلاحات حقيقية ومسؤولة وخطة نهوض اقتصادية واضحة، مشدّدًا على أنّ “الصندوق سيكون مُلْزَمًا بالتعامل مع لبنان إذا تقدّم بخطة إصلاحية جدّية وشفّافة، كما يفعل مع دول أخرى”. وختم السبع أنّ “السير وراء طروحات الصندوق خطأ فادح، إذا كان ذلك سيؤدّي إلى ضرب المصارف والمودعين وإلحاق أضرار طويلة الأمد بالبلد”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us