المودعون في مرمى السياسات المالية الفاشلة: الدولة تتحمّل المسؤولية الأولى


خاص 20 تشرين الثانى, 2025

مُجمل المُقاربات الحكومية المدعومة من صندوق النقد تتّجه نحو تحميل المودعين كلفة الفجوة المالية، وأي تركيز على ملفات تقنية مثل التدقيق الجنائي أو تقييم الأصول، من دون مُعالجة الدور الأساسي للدولة، لن يؤدّي سوى إلى تحميل الضحايا الحقيقيّين ثمن السياسات المالية الفاشلة.

كتب ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:

تتواصل الأزمة المالية في لبنان منذ سنوات، وتتزايد حدّة النقاشات حول طبيعتها الحقيقية، ما إذا كانت “أزمة نظامية” ناتجة عن سياسات الدولة والمصرف المركزي، أم “غير نظامية” بفعل عوامل خارجية أو تصرّفات مُحدّدة من بعض المؤسّسات المالية. هذا الجدل لم يعد مجرّد مسألة نظرية، بل أصبح يحمل تداعيات مباشرة على المودعين الذين يتحمّلون جزءًا كبيرًا من الخسائر، وعلى السياسات المالية التي تواصل الدولة و”صندوق النقد الدولي” وضع خطوطها العريضة من دون معالجة شاملة لمصدر الأزمة الأساسي.

فإصرار السلطات اللبنانية على عدم الاعتراف بطابع الأزمة يطرح تساؤلات حول المسؤولية الحقيقيّة عن الانهيار المالي، ويعكس، بحسب خبراء اقتصاديين، رغبةً واضحةً في التهرّب من المُحاسبة، مع تحميل كلفة الخسائر إلى المودعين بدل مواجهة الدور المحوري للدولة في صناعة الكارثة. فبينما تستمرّ السياسات المالية نفسها في الإدارة والتحكّم بالموارد، يجد المودعون أنفسهم في موقفٍ هشٍّ، مُعرّضين لتقليص ودائعهم أو لفقدان جزءٍ منها نتيجة السياسات المالية غير المدروسة.

في هذا السياق، أكدت مصادر مصرفية لموقع “هنا لبنان” أنَّ إصرار الدولة على عدم توصيف الأزمة باعتبارها “أزمةً نظاميةً” ليس مجرّد تفصيل لغوي، بل محاولة واضحة للتهرّب من مسؤولياتها. وتوضح المصادر أنَّ ما يجري اليوم هو امتدادٌ للدور نفسِه الذي لعبته الدولة قبل الانهيار وبعده، وهو دور تصفه بـ”السلوك المُستهتر” الذي لا يعترف بالأخطاء التي ارتُكبت. وتضيفُ أنَّ الدولة كانت ولا تزال الطرف الأكثر استفادةً من الأزمة، إذ تراجعت قيمة ديونها التي تجاوزت المئة مليار دولار، وانخفضت كلفة رواتب موظفيها بشكل كبير، بينما تركت المودعين يتحمّلون كامل الخسائر.

وتشير المصادر إلى أنَّ الاعتراف بأنَّ الأزمة نظامية يعني تلقائيًا الإقرار بمسؤولية الدولة عن الأموال التي استُخدمت في تمويل الدَّيْن العام والدعم والكهرباء، وهي أموالٌ تعود في الأصل إلى المودعين. كما يعني هذا الاعتراف أنَّ جزءًا كبيرًا من المصارف سيُعتبر في حالة إفلاس نتيجة الخسائر الناتجة عن الانكشاف على الدولة، وهو ما تخشاه السلطة السياسية وتتهرّب من تدوينه في النصوص القانونية.

وتلفت المصادر إلى أنَّ المسؤولين لا يستطيعون إنكار الطابع النظامي للأزمة عندما يواجَهون بالحقائق، لأنَّ الأدلة دامغة، لكنّهم يتجنّبون ذكره في القوانين والمسوّدات تحت تأثير “تفاهم” واضح مع صندوق النقد الدولي. ويرى الخبراء أنَّ هدف الصندوق في بعض المُقاربات هو إعفاء الدولة من أكبر قدر ممكن من التزاماتها، ما يعني تلقائيًّا تحميل المودعين الثمن الأكبر، وهو ما يُعَدُّ “كارثيًّا وغير مقبول”.

وعند التطرّق إلى ملف التدقيق في المصارف، تقول المصادر أنَّ كل ما يطرح حول “التدقيق الجنائي” أو “تقييم الأصول” قابل للنقاش، لكنَّ الأولوية يجب أن تكون لتحديد المسؤوليات قبل أي شيء آخر. وتضيف أنَّ الدولة هي الجهة الأساسيّة التي أهدرت أموال المودعين عبر سياسات مالية واضحة: تثبيت سعر الصرف لعقود طويلة، دعم الكهرباء، وتمويل عجز الدولة بالدولار، ثم إدارة الأزمة من دون أي قيود أو ضوابط مالية تسمحُ بالتحكّم في التحويلات، ما خلق فجوات استفاد منها المقرّبون.

وتُتابع المصادر أنَّ التركيز المُفرط على ملف التدقيق في المصارف قد يتحوّل إلى وسيلةٍ لخلق ذرائع إضافية لتقليص الودائع، بدل التركيز على الأسباب الأساسيّة التي أهدرت عشرات المليارات. وتشدّد على أنَّ الأرقام الكبيرة واضحة: 83 مليار دولار التزامات الدولة تجاه المصارف، إضافة إلى ديون الـ”يوروبوند”، وهي كافية لتحديد المسؤوليات وترتيب النتائج. وتؤكد أنَّ تحميل كلّ طرف لمسؤولياته الفعلية كفيل بإعادة أموال المودعين كاملةً، من دون الحاجة إلى اختراع “حجج تقنية” لتقليص الودائع.

من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي منير راشد أنَّ الدولة هي الجهة المسؤولة عن الانهيار المالي في لبنان، بحكْم كونها السلطة المشرفة على السياسات المالية والنقدية، والمسؤولة عن تحديد توجّهات السياسة النقدية وتمويل الدين العام، وامتلاكها الصلاحية الكاملة لمُساءلة أي جهة مسؤولة عن إدارة هذه السياسات. ويقول راشد: “لا يمكن التنصّل من مسؤوليّة الدولة عبر رمي العبء على المودعين أو على المصارف، فهذا كلام لا يؤدي إلى نتيجة”.

ويُضيف أنَّ مُجمل المُقاربات الحكومية المدعومة من صندوق النقد تتجه نحو تحميل المودعين كلفة الفجوة المالية، مشيرًا إلى أنَّ أي تركيز على ملفات تقنية مثل التدقيق الجنائي أو تقييم الأصول، من دون مُعالجة الدور الأساسي للدولة، لن يؤدّي سوى إلى تحميل الضحايا الحقيقيين ثمن السياسات المالية الفاشلة. ويشرح راشد أنَّ جوهرَ سؤال صندوق النقد لا يتعلّق بالشفافية فقط، بل بمحاولة إيجاد مبرّرات لتقليص جزءٍ من ودائع المودعين، على الرغم من أنَّ غالبية هذه الودائع هي أموال شرعية لأصحابها.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us