القرض الحسن على طاولة الإلغاء… لماذا مهلة الأشهر الثلاثة؟ وهل يجرؤ لبنان على كسر النّفوذ الإيراني؟


خاص 28 تشرين الثانى, 2025

لا يمكن للبنان أنْ ينهض طالما تعمل جمعيات مالية خارج القانون وتتحوّل إلى أذرع نفوذ لدول أو أحزاب. يجب أنْ تعود هذه المؤسسات، وفي مقدّمتها “القرض الحسن”، إلى حجمها الطبيعي، وأنْ تعرف حدود دورها ضمن صلاحيات اجتماعية ضيّقة لا أكثر، وتحت رقابة الدولة وحدها.

كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:

وسط تصاعدِ المخاوف الدولية حول الشفافيّة المالية في لبنان، تعود الأضواء إلى الجمعيات المالية وعلى رأسها “جمعية القرض الحسن” التابعة لحزب الله. فقد أفادت مصادر لقناة “الحدث” بأنّ الحكومة اللبنانية تميل إلى منح الجمعية مهلة ثلاثة أشهر لتسوية ذمّتها تجاه المتعاملين، قبل اتخاذ قرار نهائي بشأن مستقبلها، في خطوةٍ تأتي في ظلّ ضغوطٍ متزايدةٍ لضبط القنوات المالية غير المُرخّصة داخل النظام المصرفي.

ومع أنَّ هذه المهلة تبدو إجراءً إداريًا، فإنّها في الواقع اختبار صعب للدولة اللبنانية في فرض القانون على مؤسساتٍ ماليةٍ تفتقر للشفافيّة، وتستفيد من النفوذ السياسي لحزب مسلح. استمرار نشاط مثل هذه الجمعيات لا يهدّد فقط سمعة لبنان المالية على الصعيد الدولي، بل يوسّع هوة عدم الثقة بالنظام المصرفي ويعرّض البلاد لمخاطر عقوبات دولية محتملة.

يكمن السبب وراء مهلة الأشهر الثلاثة في معضلة الامتثال الدولي وضرورة تحقيق الاستقرار الاجتماعي الداخلي في لبنان. تُعَدُّ هذه المهلة خيارًا سياسيًا يُمثّلُ موازنةً بين العقوبات الدولية ومنع الانفجار الهجين المُخيف.

ما سبب منح مهلة الأشهر الثلاثة؟

بحسب الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي البروفيسور جاسم عجاقة، فإنّ منح المهلة لجمعية “القرض الحسن” ليس خطوةً إجرائيةً بسيطةً، بل قرار يتقاطع مع متطلّبات القانون الدولي ومعايير الأمم المتحدة التي تفرض إدارة النزاعات بطريقةٍ تُوازن بين مصالح متضاربة داخلية وخارجية. ومن هذا المنطلق، تأتي المهلة كخيار سياسي محسوب يهدف إلى تفادي العواقب الفورية والقاسية لقرار الإغلاق المباشر.

ويشرح عجاقة أنّ خلف هذه المهلة ثلاثة عوامل أساسية:

1 – الاستجابة للضغوط الدولية: يواجه لبنان ضغوطًا متزايدةً لوقف أنشطة “القرض الحسن” وسائر المؤسسات المالية غير الرسمية، وقد تضاعف هذا الضغط بعد إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، ما وضع الدولة أمام ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة.

2 – تجنّب العزل المالي الكامل: استمرار السماح لمؤسّسات مالية بالعمل خارج سلطة مصرف لبنان يُعزّز الانطباع الدولي بأنّ لبنان غير راغب سياسيًا في تنفيذ إصلاحات جدّية. هذا الواقع يعرّضه لخطر الانتقال إلى اللائحة السوداء، ما يعني عمليًا عزل القطاع المصرفي اللبناني عن النظام المالي العالمي.

3 – متطلبات الحصول على المساعدات الدولية: يؤكد عجاقة أنّ فتح الباب أمام القروض والمساعدات الخارجية الضرورية لإنعاش الاقتصاد اللبناني بات مرتبطًا بإغلاق القنوات المالية غير الشرعية أو تسويتها. وبالتالي، تُشكّل المهلة جزءًا من مسار إلزامي لتهيئة البيئة الإصلاحية التي يطالب بها المجتمع الدولي.

ضمان الاستقرار الاجتماعي وتصفية الالتزامات

يشدّد البروفيسور عجاقة على أنّ أحد أبرز أسباب منح مهلة الأشهر الثلاثة يرتبط بالحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، نظرًا للدور الذي يلعبه “القرض الحسن” في حياة شريحة واسعة من اللبنانيين. فالجمعية، التي تحوّلت إلى ملاذٍ ماليّ بعد انهيار القطاع المصرفي التقليدي، تُعدّ مصدرًا أساسيًا للقروض الصغيرة والودائع المرهونة، وأغلبها ذهب، ويُقدّرُ عدد المستفيدين منها بأكثر من 200 ألف شخص.

ويرى عجاقة أنّ الإقفال الفوري للجمعية من شأنه أنْ يخلق توتّرات اجتماعية حادة وربّما اضطرابات أمنية في البيئات التي تعتمد على خدماتها. لذا تأتي هذه المهلة كفترةٍ انتقاليةٍ ضروريةٍ تُتيح للمقترضين تسديد التزاماتهم واسترداد ضماناتهم، ما يخفّف من حدّة الصدمة المالية والاجتماعية التي قد تنجم عن أي إغلاق مفاجئ.

كما يلفت عجاقة إلى أنّ المهلة تُستخدم كذلك لتسوية أوضاع الجمعية إداريًا وقانونيًا، تمهيدًا لاتخاذ القرار النهائي بشأنها. وهي أيضًا، بحسب قوله، وسيلة لتجنب مواجهة سياسية – أمنية مباشرة، نظرًا لأنّ “القرض الحسن” يُشكّل الذراع المالية الأكثر فاعلية لحزب الله ضمن الاقتصاد النقدي الموازي، ما يجعل أي استهداف مباشر له جزءًا من “حرب اقتصادية” ذات تداعيات حساسة.

ويوضح عجاقة أنّ هذه الفترة تُكسب الدولة وقتًا لاحتواء قرار بالغ التعقيد سياسيًا وأمنيًا، كما تمنح حزب الله هامشًا لإعادة هيكلة شبكاته المالية وتخفيف مستوى الردّ المتوقع. والهدف النهائي، كما يُشير، هو منع انزلاق البلاد نحو انفجار هجين يجمع بين الانهيار المالي والتوترات الأمنية، وهو سيناريو شديد الخطورة على استقرار لبنان.

يرى البروفيسور جاسم عجاقة أنَّ مهلة الأشهر الثلاثة ليست فترةً اعتباطيةً، بل إطارًا وظيفيًا منسجمًا مع متطلبات التصفية والالتزامات التنظيمية والدولية. فهذه المدة تحمل أهدافًا عملية واضحة، يمكن تلخيصها في محورَيْن رئيسيَيْن:

1 – متطلبات التصفية: يوضح عجاقة أنّ فترة الـ90 يومًا تُعد الحد الأدنى المقبول لإجراء تصفية طوعية ومنظمة لمؤسسة مالية ذات حجم كبير في العمليات وعدد المستفيدين، إذ تُقدَّر معاملات “القرض الحسن” على مدى السنوات بمليارات الدولارات، فيما يرتبط بها مئات الآلاف من العملاء. وبالتالي، تُمنح هذه الفترة للمُقترضين من أجل تسوية ديونهم، وللمودعين كي يتمكّنوا من استرداد ضماناتهم، وسط مسار إداري وقانوني يضمن إتمام العملية بشكلٍ منظّم.

2 – التزامات السياسة والظرف الدولي: كما يشير عجاقة إلى أنّ المهلة قد تكون مرتبطة بمواعيد استحقاقات أو تقارير دورية تصدر عن جهات دولية، مثل صندوق النقد الدولي أو مجموعة العمل المالي (FATF) ، ولذلك فإنّ تحديد إطار زمني واضح يهدف إلى طمأنة المجتمع الدولي وإظهار التزام لبنان بخريطة طريق إصلاحية، ما يُخَفِّفُ الضغط على الحكومة في المدى القصير.

إضافةً إلى ذلك، تمنح هذه الفترة مساحةً لإجراء مفاوضات سياسية داخلية تسمح بالبحث عن آليات لمعالجة الفراغ الاقتصادي والاجتماعي الذي سيخلّفه إغلاق الجمعية في الاقتصاد النقدي الموازي، وهو فراغ لا يمكن التعامل معه بقرار فوري دون تداعيات واسعة.

على كلّ حال، لا يمكن للبنان أنْ ينهض طالما تعمل جمعيات مالية خارج القانون وتتحوّل إلى أذرع نفوذ لدول أو أحزاب. يجب أنْ تعود هذه المؤسسات، وفي مقدّمتها “القرض الحسن”، إلى حجمها الطبيعي، وأنْ تعرف حدود دورها ضمن صلاحيات اجتماعية ضيّقة لا أكثر، وتحت رقابة الدولة وحدها. فتنظيم القطاع المالي ليس خيارًا سياسيًا، بل شرطٌ أساسي لاستعادة الثقة، ولمنع أي جهة من تجاوز الدولة واستبدالها بدويلات موازية تُعمِّق الانهيار بدل أن تساهم في الخروج منه.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us