“رسول السلام” في لبنان… المسيحيّون بين استعادة الدور وصوغ السلام!

يعيش لبنان اليوم لحظةً نادرةً. البابا بين أهله، والشرق يترقّب، والعالم ينظر ليرى إنْ كان هذا البلد الصغير لا يزال قادرًا على تقديم شيء إيجابي بعد كل ما عصف به. إنّها فرصة لإعادة الاعتبار إلى دور المسيحيين في صناعة السلام، ولانتشال اللبنانيين جميعًا من مركب الانهيار والمُمانعة التدميرية.
كتب طوني كرم لـ “هنا لبنان”:
وطئ رسول السلام، البابا لاوون الرابع عشر، أرض الرسالة؛ لا كرئيس دولة وضيف رفيع فحسب، بل كصوت رجاء يبحث عنه الشرق منذ زمن طويل. صوت يأتي بما افتقدته هذه الأرض المنهكة: رسالة سلام. سلام لا يُفرض بالقوة، بل يُستعاد حين تعود الشعوب إلى جوهر دورها وهويتها ومسؤوليتها. ولبنان اليوم، وهو يرحّب بالحبر الأعظم، يقف عند مفترق طرق يحدّد مصيره ومصير مسيحييه، بل ومصير الفكرة التي جعلته مساحةً استثنائيةً في العالم العربي: فكرة العيش المشترك والحرية والانفتاح… والسلام.
ليست هذه اللحظة عابرة. فزيارة البابا تأتي إلى بلد لم يعد يشبه ذاته، بلد أُنهِك عبر عقود متتالية من الحروب والوصايات والارتهانات والصراعات التي حولته إلى ساحةٍ مفتوحةٍ لكل المشاريع… إلّا اللبناني الوطني. ومن وسط هذا الجرح النازف، ومن بين الركام والخيبات، يطلّ الحبر الأعظم ليقول للبنانيين: طوبى لصانعي السلام… ما زالت هناك فرصة، وما زال في هذا الوطن ما يستحقّ الحياة… وما يستحق الدفاع عنه.
يحمل البابا دعوةً واضحةً لا لبس فيها: على المسيحيين أن يستعيدوا دورهم. ليس دورًا يستند إلى حنين الماضي، بل دورًا يخرج من عمق التاريخ ويتقدّم نحو المستقبل. فالمسيحيون في لبنان والشرق كانوا عبر القرون صوت الإصلاح والتحديث والثقافة والنهضة، من المدرسة والجامعة إلى المستشفى… وشركاء أساسيين في بناء مجتمعاتهم. لكنّ هذا الدور تراجع، لا بفعل الاضطّهاد وحده، بل أيضًا بفعل الانكفاء وغياب المبادرة والخضوع لفكرة أنّهم “أقلية” تحتاج إلى حماية “حلف الأقلّيات”، ولو كان ثمن ذلك إخراجهم من الريادة وزجّهم في قلب محاور الممانعة وحروبها التدميرية.
إنّ وجود البابا لاوون الرابع عشر بين اللبنانيين يشكّل نداءً قويًّا لتحرير المسيحيين من هذه العقلية. فالمسيحية المشرقية ليست جسدًا خائفًا، بل فكرة تحمل قوة معنوية هائلة: قوة الشهادة للمسيح بين المسلمين، وقوة الحوار، وقوة التلاقي. ومن هنا، فإن الرسالة التي يُطلقها الحبر الأعظم في بيروت هي قبل أي شيء دعوة إلى يقظة مسيحية: يقظة من لا يريد الانغلاق على ذاته أو التعلق بمشاريع التقسيم والفيدراليات الوهمية، بل يقظة من يريد أن يعود إلى دوره الطبيعي كجسر بين المشرق والغرب، بين العروبة والحداثة، بين الإيمان والتنوّع.
لبنان الرسالة… مسؤولية قبل أن يكون امتيازًا
حين قال البابا يوحنا بولس الثاني إنّ “لبنان أكثر من وطن… إنّه رسالة”، كان يدرك أنّ هذه الرسالة لا تعيش بقوة الدستور ولا بقوة توازنات طائفية هشّة، بل بقوة إرادة الذين يحملونها. واليوم، بعد سنوات من الانتكاسات، تأتي زيارة البابا لاوون الرابع عشر لتُذكِّر اللبنانيين جميعًا، المسيحيين منهم خصوصًا، أنّ الرسالة ليست لقبًا للتغنّي، بل مسؤولية كبيرة.
مسؤولية أن يكون المسيحيون في طليعة مشروع السلام في الشرق الأوسط، لا في طليعة مشاريع الانعزال والهروب من مسؤوليات الدولة. مسؤولية أن يحرّروا لبنان من الإملاءات الإيرانية الهدّامة ويعيدوه إلى بوصلته العربية، لا أن يسمحوا بتحويله إلى منصّةٍ لصراعات الآخرين. مسؤولية أن يرفضوا كل أشكال الارتهان، خصوصًا ذلك الذي يمارسه المشروع الإيراني عبر “حزب الله”، الساعي دائمًا إلى جرّ لبنان نحو حروب وعزلة ودمار، ضاربًا ما تبقّى من دولة وصيغة مشتركة بعرض الحائط.
إنّ الحبر الأعظم، بوجوده في بيروت، يوجّه رسالةً غير مباشرة لكنها شديدة الوضوح: لبنان لا يُنقذ إذا لم يتحرّر من السلاح غير الشرعي، ومن منطق الغلبة، ومن مشاريع المحاور. فسلام لبنان لن يتحقّق عبر اتفاقات دولية، بل عبر قرار داخلي يُعيد للدولة موقعها، وللمواطنة قيمتها، وللدور المسيحي معناه.
في العقود الماضية، غرق المسيحيون في الشرق في دوّامة الدفاع عن الوجود: تارةً بطلب الحماية الخارجية، وطورًا بالالتحاق بأنظمة قمعية وعدتهم بالأمن مقابل الصمت. لكن كلّ هذه النماذج سقطت، كما تؤكّد الوثائق الكنسيّة أيضًا، أن لا حماية تأتي من الخارج، ولا أمن في ظلّ الاستبداد، ولا استقرار في ظلّ تحالفات تقوم على الخوف.
اليوم، ومع زيارة البابا، تتبدّل المعادلة: المسيحيون، ومعهم الرئيس العماد جوزاف عون، الرئيس المسيحي الوحيد في العالم العربي، لن يصنعوا مستقبلهم بالانغلاق، بل بالانخراط. لن يحفظوا مكانتهم بالتقوقع، بل بالمشاركة الكاملة في ركوب قطار السلام وبناء الدولة: دولة المساواة والمواطنة، الدولة التي لا تميّز بين أبنائها ولا تسمح بتهجير أحد أو استضعاف أحد.
إنّ الحبر الأعظم لا يأتي إلى لبنان كـ”منقذ”، بل كخليفة بطرس، “معلّم” يُذكِّر أبناء هذا البلد أنّ قوتهم في وحدتهم، وأنّ رسالتهم في قدرتهم على تحويل الألم إلى رجاء، والانقسام إلى لقاء. وهذا ما يحتاجه الشرق اليوم: أن يرى نموذجًا آخر غير الحرب، أن يرى وطنًا صغيرًا يجرؤ على أن يكون مساحة حوار في عالم يزداد تطرّفًا.
لحظة تاريخية… فهل يلتقطها اللبنانيون؟
يعيش لبنان اليوم لحظةً نادرةً. البابا بين أهله، والشرق يترقّب، والعالم ينظر ليرى إنْ كان هذا البلد الصغير لا يزال قادرًا على تقديم شيء إيجابي بعد كل ما عصف به. إنّها فرصة لإعادة الاعتبار إلى دور المسيحيين في صناعة السلام، ولانتشال اللبنانيين جميعًا من مركب الانهيار والمُمانعة التدميرية.
لم تَعُدْ الكرة في ملعب الخارج. البابا لا يحمل وصفات سحرية، لكنه يقدّم ما هو أهم: شرارة. شرارة قد تُعيد استنهاض القوى الحيّة، وتحرّك الضمائر، وتدفع اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، إلى التمسّك بما يوحدهم لا بما يفرّقهم.
إنّها دعوة لأن ينهض لبنان من تحت الركام، وأن يستعيد دوره العربي الريادي، رسالته الإنسانية، ميزته الحضارية. دعوة ليعود هذا الوطن مساحة سلام… لا ساحة صراع.
فهل يلتقط اللبنانيّون رسالة البابا… أم يُفلتون آخر فرصة للنجاة؟!.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الاستقرار المؤجَّل: الاغتيالات تُسقِط أقنعة الدويلة | جدار إسرائيل يُدان… لكن الإنكار اللبناني للسلام أخطر! | السياسة في زمن السلاح: لبنان بين الحرب والعزلة |




