البابا في لبنان: استقبال استثنائي… وأعلام تفضح النوايا!

كتب Johnny Kortbawi لـ”Ici Beyrouth”:
أضْفَت زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان أبعادًا غير متوقعةٍ. فقد طبعت محطته اللبنانية بسلسلةٍ آسرةٍ من المشاهد المترسّخة في الذاكرة: الدبكة والطبول أمام بوابات القصر الجمهوري تحت زخّات المطر، نثر الأرز، والعروض الضوئية المُبهرة على واجهة القصر على إيقاع الموسيقى والهتافات… والدمعة في عينَيْ الزائر المُنتظر… في استقبالٍ لا تشهد الذاكرة له بمثيلٍ في أي بلد آخر.
الدولة اللبنانية اجتازت بمختلف مكوّناتها، الاختبار بنجاح وقدمت نموذجًا يحتذى به لاستقبال استثنائي يفخر به اللبنانيون ولرحلة حافلة بالرموز وبالأمل.
ومع ذلك وكالعادة في لبنان، كان لا بدّ لصفو المشهد أن يتعكّر بالسياسة. وذلك تحديدًا خلال مرور الموكب البابوي في الضاحية الجنوبية، حيث احتشد مناصرو حزب الله. هناك، وعلى الرَّغم من التنسيق بين القصر الجمهوري وقيادة الحزب وتوزيع أكثر من ألف علم بابوي اتفق مسبقًا على رفعها إلى جانب علم لبنان، أصرّ البعض على استبدالها بأعلام حزب الله… خطوة تفضح الرغبة بوضع الزيارة في إطار سياسي وصراعي، على الرَّغم من تأكيد البابا قُبيل وصوله رفض إثارة أي جدل.
وبالتوازي، أصرّت أوساط قريبة من حزب الله على انتقاد عدم كشف سقف سيارة البابا الخاصة، “الباباموبيل” في الضاحية مقارنةً بمحيط الحازمية. ووضعت ذلك في سيناريو يستكمل سجالات الأسابيع الأخيرة حول امتناع البابا عن زيارة الجنوب… وبذلك أرادت الأوساط التشكيك وكأنّ البابا تفادى تحيّة الشيعة واكتفى بتحية الجماهير في منطقة ذات غالبية مسيحية.
اتهاماتٌ لا تهدف إلّا لإضفاء بُعْدٍ سياسي وطائفي على الزيارة، وتصوير البابا كطرفٍ في مسارٍ دوليّ يسعى لتهميش حزب الله، وبالتالي الطائفة الشيعية… وهو خلط يعتمده مناصرو الحزب في الغالب للإيحاء بوجود ضغوط متزايدة عليه.
ومع ذلك، تُثبت الوقائع على الأرض العكس… فزيارة البابا لم تتضمّن مناطق لبنانية أخرى منكوبة بالأزمات والحروب والمعاناة. ولم تشمل الشمال أو عكار المثقلتَيْن بالفقر المزمن والحرمان وغياب الدولة. والحال تنسحب على شمال لبنان المسيحي وأقضيته الأربعة، التي تشكّل قلب التاريخ المسيحي اللبناني، وحيث وادي قنوبين وأرز الرب المذكوران في الإنجيل. ولم يقصد البابا زحلة، عاصمة الكاثوليكية الشرقية، على الرّغم من كونه أعلى مرجعية كاثوليكية في العالم… ولا بعلبك، مدينة الشمس، حيث ولدت القديسة بربارة… ولا جبيل، مهد الأبجدية، والمدينة التي منحت اسمها لمفردة “Bible” أي الإنجيل في اللغة الأجنبية. والسبحة تطول وهذا أمر طبيعي فالبابا ليس في رحلة سياحية، بل في زيارة تحمل رمزية عالية.
وفي المقابل، تضمّنت محطات البابا ضريح مار شربل، القديس الموقّر لدى كل من المسيحيين والمسلمين في لبنان، وصاحب العدد الأكبر من المعجزات الموثّقة محليًّا وربما عالميًّا. كما خصّصت زيارة لدير راهبات الصليب، الذي برز عمله الإنساني أخيرًا والذي يحتاج إلى الدعم والالتفات.
زيارة البابا أفسحت كذلك مساحة اللقاء مع جميع المرجعيات الدينية في لقاء مسكوني في وسط بيروت، بحضور شخصيات شيعية قادرة تمامًا على إيصال الرسائل اللازمة إلى الحبر الأعظم. ومن أبرز محطاتها، مرفأ بيروت حيث توجّه البابا للصلاة على أرواح ضحايا أكبر انفجار غير نووي في التاريخ الحديث.
في المُحصلة، لم يخصّْ البابا منطقةً دون أخرى، ولم يُظهر أي تمييز بين اللبنانيين. وعلى الطرقات، لم تُرفع سوى الأعلام اللبنانية والبابوية. فكيف يفسّر سلوك جمهور حزب الله في الشارع وعلى وسائل التواصل إلّا كمحاولةٍ لإحراج البابا وتصويره، والمسيحيون معه، كخصومٍ للحزب؟ وذلك من دون حاجة للتذكير بأنّ الدمار لم يُوَفِّرْ أحدًا، مسيحيين ومسلمين، وطال الدولة بكل مفاصلها؟
وبعيدًا عن مراسم الترحيب، ألم تخطف الأنظار صورةٌ أخرى لا تقل دلالة؟ محمد رعد في القصر الجمهوري، بملابس تتجاهل أبسط قواعد اللباقة الدبلوماسية، بلا ربطة عنق، في تجاهلٍ واضحٍ لبروتوكول الدولة. مشهدٌ هو رسالة بحدّ ذاتها. فلو كان حزب الله في ذروة نفوذه كما في السابق، ربّما ما تمّت الزيارة أصلًا… ليس لأنّه كان سيمنعها، بل لأنّ البابا كان ليدرك أنّه لا يزور دولةً ذات سيادة، بل بلدًا مكبّلًا، تُمْسِكُ بمفاصله مجموعة مسلّحة… مجموعة تحاول اليوم، على نحوٍ مفارقٍ، أن تلبس ثوب الضحية!.
مواضيع ذات صلة :
سعيد: نحن أصبحنا في مرحلة جديدة وزيارة البابا فتحت الطريق للتفاوض | البابا تسلّم هدايا فنية من الجامعة اللبنانية خلال زيارته | الرئيس عون: اللبنانيون اجتمعوا حول شخص البابا |




