لبنان على مفترق التاريخ: جوزاف عون يفتح أبواب الاتفاقيات الإبراهيمية!

الاعتراضات على موقف رئيس الجمهورية تبقى محصورةً بين موقف الدولة الرسمي واعتراض مكوّن سياسي محدّد، والدولة قادرة على الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وتوقيع اتفاق سلام على غرار مصر والأردن، ويمكن لجمهور الثنائي الشيعي الاعتراض سياسيًّا ضمن حدود التعبير الديمقراطي.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في لحظة سياسية فارقة، يقف لبنان على أعتاب تحوّل تاريخي قد يُعيد رسم موقعه في المنطقة ويُخرجـه من دوّامة الصراعات المُزمنة. فقرار الرئيس جوزاف عون بتكليف السفير السابق سيمون كرم ترؤس الوفد اللبناني إلى اجتماعات “الميكانيزم” والمشاركة في اجتماع الناقورة، لم يمرّ كخبر بروتوكولي عابر، بل حمل دلالاتٍ واضحةً على انخراط لبنان في مسار جديد قوامه التفاوض المباشر وصناعة السلام. خطوةٌ وُصفت بالجريئة، تتقاطع مع خطاب رئيس الجمهورية ورؤيته للبنان كمساحة لقاء بين أبناء إبراهيم، وتفتح الباب واسعًا أمام احتمال انضمام البلاد إلى الاتفاقيات الإبراهيميّة بما تمثّله من مشروع إقليمي يَعِدُ بطيّ صفحة الحروب. وبين الترحيب الدولي والرعاية الفاتيكانية، وبين أصوات الرفض المتوقعة، يبدو أنّ المسار قد بدأ فعلًا… وأنّ لبنان يدخل مرحلةً لا تشبه ما قبلها.
وفي موازاة هذا التحوّل التاريخي، تتعزّز القناعةُ لدى عدد واسع من المتابعين بأنّ الرئيس جوزاف عون يقود البلاد بثباتٍ نحو مرحلةٍ أكثرَ أمنًا واستقرارًا. فالخطوات التي اتخذها في الأيام الأخيرة لم تعدْ تُقرأ كتحرّكات ظرفية، بل كمشروع متكامل لإعادة وضع لبنان على سكّة الدولة القادرة، المنفتحة، والمستعيدة لدورها الطبيعي في المنطقة. ويُجمع مؤيّدو هذا النهج على أنّ الرئيس عون أظهر جرأةً سياسيةً نادرةً وإرادةً واضحةً في حماية لبنان من الانزلاق إلى حرب لا يريدها أحد، عبر إعادة الاعتبار للدبلوماسية وتثبيت خيار السلام كمسار إنقاذي. وفي سياق هذا التوجّه، يُقدّم المحللان طوني بولس وإيلي بدران مقاربةً شاملةً لما يحمله هذا القرار من دلالاتٍ عميقةٍ على مستقبل البلاد.
يؤكّدُ المحلل السياسي طوني بولس أنّ “القرار الأخير الذي اتخذه الرئيس جوزاف عون يُعدّ الأهم منذ انتخابه، معتبرًا أنّه قرار استراتيجي بامتياز ونقطة تحوّل في مسار البلاد”. ويقول إنّ هذا القرار “أراح الداخل اللبناني وأعاد تحريك المسار الدبلوماسي بعد فترةٍ بدت فيها الخيارات محصورةً بالمواجهة العسكرية، لافتًا إلى أنّه يشكّل خطوةً مدروسةً في الاتجاه الصحيح وتفتح نافذة فعلية أمام مرحلة جديدة من الاستقرار”.
وانطلاقًا من هذا التبدّل في المشهد الداخلي، ينتقل بولس إلى مقاربةٍ أوسع تتصل بالبُعد الإقليمي، إذ يشير إلى أنّ الانخراط في المشروع الإقليمي الجديد ومسار السلام بات ضرورةً ملحّةً للبنان، معتبرًا أنّ الخطوة الأولى المطروحة تشكّل مبادرةً مهمّةً جدًّا، لأنَّها أبعدت شبح الحرب الوشيكة عن البلاد وأعادت إحياء المسار الدبلوماسي بعد فترة توتّر غير مسبوقة.
وبعد عرض أهمية هذه المبادرة على المستوى الإقليمي، يلفت بولس إلى ضرورة تحديد موقع لبنان من الصراعات القائمة، ويقول إنّه حان الوقت لينظر لبنان بجدية إلى كيفية الاندماج في محيطه الإقليمي، مشدّدًا على أنّه ليس من مسؤولية لبنان إزالة إسرائيل من الوجود أو استخدام أراضيه كساحة مواجهة، فإسرائيل دولة قائمة ومعترف بها دوليًا من قبل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبالتالي يجب التعامل مع هذا الواقع كأساسٍ لأي مقاربة سياسية أو دبلوماسية.
وتأسيسًا على هذا المنطق الواقعي، يُتابع بولس طرحه حول مسار التسوية، ويضيف أنّ على لبنان أن يتجه نحو الاعتراف بدولة إسرائيل تمهيدًا لانطلاق عملية سلام شاملة، تُعالج أولًا حقوقه الوطنية وتُنهي حالة الحرب المستمرّة منذ عقود، مشدّدًا على أنّ “أي حرب لا يمكن أن تبقى مفتوحةً إلى الأبد، فكلّ الحروب تنتهي عادةً بالمفاوضات، مستشهدًا بتجارب تاريخية بارزة كالحرب بين الولايات المتحدة واليابان، حيث تحوّل الطرفان لاحقًا إلى حليفَيْن استراتيجيَيْن على الرغم من حجم الدمار الذي شهدته تلك الحقبة.
وانطلاقًا من المقارنة التاريخية، ينتقل بولس إلى قراءة المؤشّرات الدبلوماسية المعاصرة، مشيرًا إلى أنّ الرسائل الصادرة مؤخرًا عن الحكومة الإسرائيلية تحمل الكثير من الإيجابية، ولا سيما استعدادها لإيفاد ممثلين لزيارة لبنان ولقاء مسؤولين رسميين وتعزيز التعاون التجاري، معتبرًا أنّ هذه الخطوات تمثّل أرضيةً بنّاءةً يمكن البناء عليها ضمن المشروع الإقليمي الإبراهيمي.
وبعد عرض هذه المؤشرات، يُشدّد بولس على البعد المستقبلي لعملية السلام، مؤكدًا أنّ اتفاقيات السلام باتت ضرورةً ملحّةً لتهدئة المنطقة وإنهاء مرحلة طويلة من الصراعات، ومشدّدًا على أنّ لبنان يجب أن يكون من أوائل الدول التي تتجه إلى توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، لما لذلك من انعكاسات مباشرة على إعادة بناء الاقتصاد اللبناني وفتح أبواب الازدهار.
وفي سياق الربط بين السلام والتنمية، يختتم بولس برؤيةٍ تتعلق بمرحلة ما بعد النزاعات، إذ يُضيف أنّ “مرحلة الدمار والاشتباكات التي طالت الجانبَيْن يجب أن تُطوى، فالحروب ألحقت الأذى بإسرائيل كما بلبنان، وقد آن الأوان للانتقال من ذهنية الصراع إلى نهج السلام والتعاون الاقتصادي، إذ إنّ البلدين جاران ولا بُدَّ من مشاريع مشتركة سياحية واقتصادية وحيوية تضمن مستقبلًا أكثر استقرارًا للشعبَيْن”.
من جهته، يقول المحلل السياسي إيلي بدران إنّ قرار رئيس الجمهورية جوزاف عون ليس خطوةً مفاجئةً إطلاقًا، بل يأتي في السياق الطبيعي للتطورات المتسارعة في الشرق الأوسط.
وانطلاقًا من القراءة العامة للمشهد الإقليمي، ينتقل بدران إلى مقاربةٍ تفصيليةٍ مرتبطةٍ بالجانب التفاوضي، حيث يُشير إلى أنّ تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني في اجتماعات الميكانيزم يعكس توجهًا واضحًا نحو الانخراط في مسار سياسي جديد. ويُضيف أنّ هذا التعيين يُعيد إلى الذاكرة محطات سابقة ضاعت فيها الفرص نتيجة الحسابات الضيّقة، ما جعل البلاد تدفع أثمانًا كبيرةً لم تكن ضرورية.
وبعد هذا التوقّف عند دلالات التعيين، يفتح بدران قوسًا أوسع لقراءة المشهد التاريخي، فيؤكّد أنّ مرور 43 عامًا على اتفاق 17 أيار يوضح أنّ إسقاطه لم يكن انتصارًا لإيديولوجيا مُعيّنة، بل خدمة غير مباشرة لمشروع فارسي لم يحقّق أي مكسب للقضية الفلسطينية، بل انشغل بإلهاء المنطقة فيما كانت إيران تُشيّد مشروعها النووي الذي انتهى خلال دقائق.
وانطلاقًا من هذه الخلفية التاريخية، ينتقل بدران للحديث عن اللحظة السياسية الراهنة، مشيرًا إلى أنّ الوضع الحالي يُظهر تشابهًا في النيّة والعزم مع محطات سابقة، إلا أنّ الفارق الجوهري اليوم هو الإجماع الواسع الذي يحظى به عهد الرئيس جوزاف عون ضمن مختلف المكوّنات اللبنانية. ويؤكّد أنّ هذا الالتفاف الداخلي يمنح الطرح السياسي الجديد قوة دفعٍ قد تمنع تكرار تجارب الإخفاق السابقة.
وبعد رسم هذا الإطار الداخلي، ينتقل بدران إلى البُعد الإقليمي والدولي، مشدّدًا على أنّ لبنان لا يمكنه البقاء خارج الإجماع العربي، كما أنّ تعافيه الاقتصادي مستحيل إذا ابتعد عن المجتمع الدولي وعن أصدقائه التقليديين. ويشير إلى أنّ المنطقة تشهد تحوّلًا جيوسياسيًا عميقًا يُعَدُّ الثاني من نوعه بعد اتفاق سايكس – بيكو، وهو تبدّل لا يستطيع لبنان المُنهك مواجهته منفردًا.
وبعد عرض المشهد الإقليمي، يعود بدران لقراءة الانقسام الداخلي المرتبط بالملف، فيقول إنّ الاعتراضات على موقف رئيس الجمهورية تبقى محصورةً بين موقف الدولة الرسمي واعتراض مكوّن سياسي محدّد، موضحًا أنّ الدولة قادرة على الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وتوقيع اتفاق سلام على غرار مصر والأردن، في حين يمكن لجمهور الثنائي الشيعي الاعتراض سياسيًّا ضمن حدود التعبير الديمقراطي.
ومع انتقاله إلى المحور الاجتماعي – الاقتصادي، يؤكد بدران أنّ المزاج الشعبي بات واضحًا، إذ أصبحت الغالبية الساحقة من اللبنانيين ترفض الاستمرار في مسار المغامرات الذي يشبه مغامرات السندباد “تبدأ ولا تنتهي”، معتبرًا أنّ البلاد تحتاج إلى هدنةٍ من الصراعات الإقليمية لإعادة بناء قدراتها الاقتصادية.
وفي ختام حديثه، يربط بدران بين الاستقرار الداخلي والدور الخارجي للبنانيين، مشيرًا إلى أنّ المرحلة المقبلة يجب أن تتضمّن تفعيل دور الاغتراب اللبناني والاستفادة من خبراته واستثماراته، بما يفتح الباب أمام مسار جديد من إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي.




