عشق البندقية يقتل القضية!

إعلان الحبر الأعظم أنّه كان يرغب في زيارة البقاع والشمال والجنوب لكنّه لم يستطع لضيق الوقت، يؤكد للمتابعين أنّ الفاتيكان حريص على دعم وحدة أراضي “لبنان الكبير” والحؤول دون محاولات تقسيمه عبر فرض “ترانسفير” على بعض سكّانه، ما يتبعه اقتطاع أي رقعة كانت قد أُضيفت إلى “الصغير” في الشمال أو الشرق أو الجنوب بعد المرور بحقبة الانتداب.
كتب محمد سلام لـ”هنا لبنان”:
قفزة لبنان إلى تفاوض “مدني” يُنهي القتال مع إسرائيل، على أهمّيتها، ليست أكثر من الخطوة الأولى في رحلة مليئة بالأفخاخ والألغام نظرًا لعدم تساوي وضع الدولتين في معادلة النزاع.
دولة لبنان ليست طرفًا في الحرب التي أطلقها من جنوب لبنان أمين عام حزب الله الراحل حسن نصر الله في 8 تشرين الأول العام 2023 وأسفرت، إضافةً إلى ابتلاء أهل الجنوب قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا، عن احتلال خمس تلال تعتبرها الدولة العبرية امتدادًا لجبل الشيخ الذي تسيطر عليه.
فلماذا دولة لبنان لا تحارب طالما أنّ إسرائيل تحتلّ أرضها؟!
هل لأن إسرائيل احتلت التلال الخمس من حزب إيران المسلّح الذي كان يسيطر عليها ما ينطبق عليه في هذه الحالة المثل الأرمني العتيق: “حرامي سرق من حرامي، الله شاهد وتعجّب”.
فهل سيقاتل لبنان لتحرير التلال من إسرائيل وإعادتها لحزب الله الذي كان يسيطر عليها كما على بقية منطقة عمل قوة اليونيفيل جنوبي نهر الليطاني من دون تفويض من الدولة اللبنانية؟!
لبنان كان قد أعلن عن خطةٍ لحصر سلاح حزب الله الذي تتهمه إسرائيل بإعادة بناء قوته وترسانته في لبنان، ما ينفيه الحزب ولا يؤكده لبنان.
لكنّ النشرة العربية لوكالة “سكاي نيوز” نقلت عن بيانٍ لوزارة الداخلية السورية أنّ “الوحدات المختصة نفذت مداهمةً مُحكمةً أسفرت عن ضبط 1250 لغمًا حربيًا مُجهزًا بصواعق، كانت معدةً للتهريب إلى ميليشيا (حزب الله) في لبنان، كما أُلقي القبض على أربعة من المتورطين، فيما جرى تحييد الشخص الخامس خلال الاشتباكات مع الدوريات”.
وأشارت الوكالة إلى “تورّط إيراني بتحريك مهرّبي السلاح في سوريا” من دون ذكر المزيد من التفاصيل المتعلّقة بانتماءات المهربين وجنسياتهم وأماكن تواجدهم ومصدر الأسلحة التي كانوا بصدد تهريبها.
من جهتها، أنهت لجنة “الميكانيزم” اجتماعها في رأس الناقورة، وقد شارك مدني للمرة الأولى كرئيسٍ للوفد اللبناني هو السفير السابق في الولايات المتحدة سيمون كرم، إلى جانب ضباطٍ من الجيش اللبناني بقيادة قائد قطاع جنوب الليطاني العميد الركن نيكولاس تابت وحضور الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس بالإضافة إلى الممثلَيْن الفرنسي والأميركي، والجانب الإسرائيلي، وبمشاركة قوات اليونيفيل.
بغضّ النظر عن المسحة التفاؤلية التي واكبت رئاسة السياسي المخضرم كرم للوفد اللبناني بصفته أوّل مدنيّ يُكلّف بالمهمة منذ دخول وقف العمليات العدائية حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني العام 2024، يبقى مسار التطبيق مليئًا بالأفخاخ والألغام نظرًا لالتباس دور كلّ من الطرفين الموقعين، لبنان وإسرائيل، في التسبّب بالنزاع والنتيجة التي وصل إليها، وهي القاعدة العلمية المعتمدة للتداول في مدخل لحلّ أي نزاع ثنائي الطرف بعد تحديد السبب والنتيجة.
طرفا النزاع اللذان وقّعا اتفاق وقف إطلاق النار هما إسرائيل ولبنان. فمَن المُتسبّب ومن مُتلقّي النتيجة؟
لبنان غير مشارك في القتال حتى الآن وبالتالي ليس هو سبب أو أحد سببَيْ الصراع، واقتصر دوره على تلقّي نتيجة الصراع بشريًا واجتماعيًا وجغرافيًا. فمَن هو السبب، أو المتسبّب، وما هي النتيجة بغضّ النظر عن تحديد المنتصر والمهزوم؟!
معضلة هذ الصراع تكمن في أن بحث حلّه يركّز على طرفين علمًا أن أحدهما، أي لبنان، لم يكن له دور في القتال. فهل لبنان الرسمي “الحالي” يُمثّل حزب الله الذي خاض حرب مساندة “حماس” من جبهة جنوب لبنان في 8 تشرين الأول العام 2023؟!
علمًا أنّ لبنان الرسمي “الحالي” الذي عيّن “المدني” كرم رئيسًا لوفده المفاوض مع إسرائيل لم يكن في السلطة عندما تمّ الإعلان عن دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني العام 2024 قبل عشرة أيام من سقوط التحالف الإيراني – الأسدي الذي كان يحكم سوريا ولبنان وبروز نظام جديد في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع الذي يحظى بدعم عربي-أميركي-تركي؟!
فهل يقبل حزب الله نتيجة التحالف المباشر مع إسرائيل علمًا أنّه كان قد رفضه قبل نحو شهر في كتابٍ وجهه إلى “الرؤساء الثلاثة” (عون-بري-سلام) و”الشعب اللبناني” شدّد فيه على أنّ لبنان “معني بوقف العدوان الإسرائيلي لا بالانجرار إلى أفخاخ تفاوضية تهدف إلى تحقيق مكاسب لصالح إسرائيل”.
وحذّر بيان الحزب ممّا اعتبره “محاولات فرض نقاش حول “حصرية السلاح خارج الإطار الوطني”، في تأكيدٍ على موقفه الداعي إلى “استراتيجية أمن وطني” تُتيح له الاحتفاظ بسلاحه ومسلّحيه معًا عبر تحوّله إلى ما يشبه شقيقه “الحشد الشعبي” العراقي الذي يتعرّض لرفضٍ متصاعدٍ من الشعب العراقي.
فماذا سيكون موقف الحزب وقرار المنظومة اللبنانية الحاكمة من المفاوضات مع إسرائيل عبر الميكانيزم التي تتولّى أميركا رئاستها وتؤمّن دعمها؟!
في هذا الصدد، أصدرت السفارة الأميركية مساء أمس بيانًا سلّط الضوء على أنّ “كبار المسؤولين” في الميكانيزم اجتمعوا في مقر قيادة اليونيفيل في الناقورة “لتقييم الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاقٍ دائمٍ لوقف الأعمال العدائية في لبنان، ودعم سلام دائم وازدهار مشترك للجانبين”.
وقال البيان إنّ انضمام كرم والمدير الأول للسياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي أوري ريسنيك إلى “المستشارة” مورغان أورتاغوس في الاجتماع كمشاركين مدنيين يعكس “التزام الآلية بتسهيل المناقشات السياسية والعسكرية بهدف تحقيق الأمن والاستقرار والسلام الدائم لجميع المجتمعات المتضرّرة من النزاع”.
وخلص البيان إلى أنّ اللجنة، التي تضم أيضًا ممثلَيْن لفرنسا واليونيفيل، “تتطلّع إلى دمج” توصيات كرم والإسرائيلي ريسنيك “مع استمرار الآلية في تعزيز السلام الدائم على طول الحدود”.
فماذا سيكون موقف لبنان إذا شنّت إسرائيل هجومًا على إيران؟!
وماذا سيكون موقف لبنان إذا حاول الحزب أن يهاجم إسرائيل دفاعًا عن نظام الولي الفقيه الذي كان نصر الله يقول إنّه “جندي” في جيشه؟!
وماذا أيضًا، بل ربما أوّلًا، سيكون موقف الحزب إذا أمرته إيران أنْ يمارس الدور الذي أوكلته إليه وهو قاعدة أمامية للدفاع عنها؟!
من غير المُفيد التنبؤ بالإجابات عمّا سلف من تساؤلات، لكن الملفت أنّ إسراع لبنان إلى التفاوض المدني مع إسرائيل تبع رسالات وجّهها قداسة البابا لاوون الرابع عشر بالتلميح أو بالوضوح خلال زيارته للبنان.
أولى تلك الرسائل كانت لقاءه مع عائلات شهداء وضحايا تفجير مرفأ بيروت حيث أضاء شمعةً وصلّى على أرواح الذين ارتحلوا وطلب الشفاء للمصابين، وشارك رئيس الحكومة القاضي نواف سلام قداسة البابا وقفته واعتبرها “رسالة عدالة لبيروت ولأهالي الضحايا”.
فهل ستُزال القيود التي فُرضت على المحقق العدلي طارق البيطار ما يتيح له الاستمرار بتحقيقه وإصدار القرار الظنّي بفعل صلاة الحبر الأعظم؟
هذا ما يراهن عليه المؤمنون.
الرسالة الثانية وجّهها قداسة البابا في كلمته الوداعية، دعا فيها إلى “ألّا يظنّنّ أحد بعد الآن أن القتال المسلّح يجلب أي فائدة. فالأسلحة تقتل، أما التفاوض والوساطة والحوار فتبني. لنختر جميعًا السلام وليكن السلام طريقنا، لا هدفًا فقط”.
أمّا الرسالة الثالثة، والأهمّ في تقديري المتواضِع، فهي قول قداسته إنّه كان يرغب في زيارة البقاع والشمال والجنوب، لكنّه لم يستطع لضيق الوقت.
إعلان الحبر الأعظم عن نيته تؤكد للمتابعين أن الفاتيكان حريص على دعم وحدة أراضي “لبنان الكبير” والحؤول دون محاولات تقسيمه عبر فرض “ترانسفير” على بعض سكّانه ما يتبعه اقتطاع أي رقعة كانت قد أضيفت إلى “الصغير” في الشمال أو الشرق أو الجنوب بعد المرور بحقبة الانتداب.
نسأل الله أن تتحقّق أدعية الحبر الأعظم التي تعكس تطلعات الفاتيكان، كما تُحقّق دعم الكنيسة الكاثوليكية للمناضل ليخ فاليسا الذي أسّس حركة “تضامن” العمالية في بولندا وأسقط النظام الشيوعي وفاز بجائزة نوبل للسلام في العام 1983 عندما كان الاتحاد السوفياتي في عزّ قوته وصار أول رئيس ينتخب ديمقراطيًا في بولندا في العام 1990.
فعلًا، عشق البندقية يقتل القضية…
مواضيع مماثلة للكاتب:
لبنان بين المطرقة والسّندان!! | لبنان إلى أين؟! | حروب وتغيير خرائط أربع دول عربية |




