البابا في لبنان: سوسيولوجيا بلد على حافة الهاوية…

ترجمة هنا لبنان 6 كانون الأول, 2025

ترجمة “هنا لبنان”

كتب Charles Chartouni لـ”Ici Beyrouth“:

ليست زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان حدثًا عابرًا ولا مجاملة بروتوكولية. إنّها خطوة مدروسة، تعكس قرارًا صريحًا بالتوجّه إلى بلد يقف اليوم في قلب العاصفة. وفي المقابل، تأتي زيارة تركيا ضمن سياق مختلف تمامًا، حيث لبّى البابا دعوة البطريرك برثلماوس للمشاركة في الاحتفال بمرور سبعة عشر قرنًا على انعقاد مجمّع نيقية (325)… ذلك الحدث الذي أرسى الأسس الأولى للعقيدة المسيحية، وشكّل حجر الزاوية في روح التقارب والوحدة بين الكنائس اليوم.

ويحمل اختيار البابا لبنان أولى محطاته في المنطقة، رسالة قوية إلى المجتمع الدولي. فهذا الكيان السياسي الذي شكّل المثال الوحيد تاريخيًّا على تجربة سياسية مبتكرة وتوازن دقيق بين مكوّناته، يواجه اليوم تهديدات جدّية تطال جوهر وجوده. ومن خلال هذه الزيارة، أكدت الكنيسة المارونية على رغبتها بتجاوز الإرث التاريخي الذي وضع المسيحيين في موقع التبعية داخل العالم الإسلامي، وثبّتت حضورها كشريك فاعل في صناعة الدولة الحديثة. وفي جوهر الرسالة أيضا، دفاع صارم عن فكرة الدولة الحديثة القائمة على حدود سياسية واضحة وعلى مؤسسات يختارها المواطنون بإرادتهم الحرّة، بدلًا من الانتماء الديني الذي طبع مفهوم “الأمّة” التقليدي. فلبنان، كما تصوّره روحه التأسيسية، إنّما يستند إلى المبادئ التي تحدث عنها الفيلسوف والمستشرق الفرنسي الرائد إرنست رينان: إرادة العيش المشترك والاستفتاء اليومي الذي يجدّد العقد الوطني بين أبنائه. وقد ذكّرت زيارة البابا برمزيتها كما بتوقيتها، العالم بأن لبنان ليس مجرّد مساحة جغرافية مأزومة، بل فكرة سياسية ورهان إنساني يستحق الدعم والحماية.

وفي الأصل، استشرف البطريرك الياس الحويّك (1898-1931) قبل نحو قرنٍ من اليوم، مستقبل لبنان والمنطقة. ففي زمنٍ سعت فيه العروبة الناشئة والإسلاموية الصاعدة لإعادة استحضار مفاهيم الإسلام النصّي في أطر شمولية وحديثة، دعا الحويّك للانتقال من القومية الدينية إلى القومية السياسية. شكّل ذلك موقفًا جريئًا، معاكسًا للتيار، لكنه فتح الباب أمام الحداثة السياسية في لبنان، وأمام ولادة مجتمع مدني ناشئ يسعى إلى ترسيخ دولة القانون. وبفضل هذا الخيار، رسّخت الكنيسة المارونية ارتباطها بمبدأ التفويض (السبسيديارية)، أي توزيع الصلاحيات بما يمنع الاحتكار ويعزّز المشاركة، وبدفاعها الثابت عن الحريات العامة والخاصة. وهكذا تحوّلت الكنيسة إلى رافعة فكرية وسياسية لبلدٍ يسعى إلى صياغة هوية وطنية تتجاوز العصبيات التقليدية.

ومع ذلك، لا يكتمل تفسير ما عاشه لبنان طوال سبعة عقود من حروب وأزمات إلّا بالعودة إلى الجذور الثقافية لهذا الاضطراب المزمن. فالصراعات التي انفجرت مرارًا وقودها التوتّر الدائم بين ثقافة سياسية إمبراطورية ما زالت حاضرةً في المنطقة، وثقافة دولة القانون التي حاول لبنان أن يتبنّاها. ومع الوقت، ساهم الارتباط بالكنيسة الجامعة والعلاقات الدولية التي نسجها لبنان في تثبيت أسس هذه الدولة الحديثة، على الرغم من البيئة الإقليمية المعاكسة. وعلى الرغم من العواصف، نجح لبنان في ترسيخ مكانته: عضوًا مؤسسًا في جامعة الدول العربية (1945)، وفي الأمم المتحدة (1945)، ومساهمًا في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948).

وعلى الرغم من أن ذلك عكَس قدرة هذا الكيان الصغير على الدفاع عن شرعيته الوطنية والدولية، لم يبقَ المشهد على حاله. فعودة الإسلاموية بقوة، بشقَّيْها الشيعي والسنّي، أعادت طرح الأسئلة العميقة حول علاقة الإسلام بالحداثة وبحروبه الداخلية، في عالمٍ شديد الإضطراب. وفي المقابل، واظبت الدبلوماسية الفاتيكانية على سعيها لحماية ما تبقى من التوازن في المنطقة، إدراكًا منها لخطورة اهتزاز الوجود المسيحي في الشرق الأوسط. كما أدّت موجات التوتاليتارية، والحروب الأهلية المتكرّرة، وانهيارات الحكم إلى تفكّك دولٍ بكاملها وتراجع دور المجتمع الدولي، وانتشار حالة غير مسبوقة من “التوحّش” السياسي والاجتماعي. وفي قلب كل ذلك، وجد لبنان نفسه عالقًا من جديد في عين العاصفة، محاولًا حماية فكرة الدولة والذاكرة والوجود.

لم يكن التدهور الذي عرفه لبنان بمعزلٍ عن محيطه. فـالتوحّش الإقليمي الذي ضرب الشرق الأوسط ترجم بنسخته اللبنانية الخاصّة، وتغذى عبر عقودٍ على سياسات متعدّدة تشابكت آثارها: من مشاريع التخريب التي رافقت المدّ الناصري والعروبي، إلى النشاط الفلسطيني المسلّح المتحالف مع اليسار، وصولًا إلى الهيمنة السورية الطويلة، ثم التوسّع المتدرّج للنفوذ الإيراني. وفي السنوات الأخيرة، اتخذت الاستراتيجية الإيرانية بُعْدًا جديدًا، حيث تحوّل لبنان إلى منصّة محورية ضمن ما تصفه طهران بعقيدة المنصّات العملياتية المندمجة في الشرق الأوسط. وقد حوّل هذا التوجّه البلاد إلى ساحةٍ تتقاطع فيها سياسة هيمنة خارجية مع منظومة نفوذ محلية، بحيث باتت السيطرة تُمارَس من خلال مستويَيْن متوازيَيْن: مشروع إقليمي واسع، وواقع داخلي يُعيد تشكيل موازين القوة اللبنانية. وفي قلب هذا المشهد، هدف بالغ الحساسية: إضعاف ما يُعرف بـ”لبنان المسيحي” (بما يمثّله من ثقل تاريخي وسياسي وثقافي) بات جزءًا من الشروط المسبقة لترسيخ منطق الهيمنة، في بلدٍ تعددي يقوم أساسًا على توازن مكوّناته ويُعيد رسم حدوده الداخلية والإقليمية.

تظهر في هذا السياق سياسات الاستتباع والاستلحاق، حين تقترن بالافتراس الجغرافي وبثّ الرعب وطمس الوعي السياسي، كأدواتٍ متكاملةٍ لفرض هيمنة معلنة. والهدف: إقامة سلطة شيعية راسخة تُستثمر كحلقة وصل في المشروع الإقليمي الإيراني، الذي ظلّ يرى في “لبنان المسيحي” وفي إسرائيل آخر العقبات أمام تمدّده. غير أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية المضادّة نجحت في الإطاحة بهذا التصوّر وما ارتبط به من رهانات. الأمر الذي دفع طهران إلى محاولة إعادة تشكيل شبكة حلفائها الإقليميين، ولو بثمنٍ باهظٍ: إحياء الصراعات الأهلية وإعادة المناطق الرّمادية أمنيًا، وفتح الباب أمام موجة جديدة من الاضطرابات الإقليمية. وهكذا انفتح المشهد من جديد على دوّامة الحروب والتفكك، حيث تتقاطع مشاريع النفوذ مع هشاشة الدول، ويعود الشرق الأوسط إلى مرايا صراعاته الأكثر تعقيدًا، من دون أفقٍ للانفراج.

وعلى الصعيد الداخلي، تتعاظم مظاهر التفلّت داخل البيئات الشيعيّة المتأثرة بالنزاعات الإقليمية وتقلّبات السلطة، فيما يزداد التطرّف الديني انتشارًا وحدّةً، مدفوعًا بقراءات فقهية مُسيّسة وبمأسَسَة انحرافات اجتماعية نشأت على وقع تمدّد شبكات الجريمة المنظمة التي باتت تُعيد تشكيل البنى والعلاقات داخل المجتمع. وفي هذا المناخ المشحون، لا يقتصر رفض السردية الوطنية اللبنانية ولا التشكيك في تاريخ البلاد على مجرّد ظواهر هامشية أو انفعالات عابرة؛ بل يشكّلان الركائز الفكرية لنهجٍ مُتصاعد من المراجعة الإيديولوجية الموجَّهة، يُستخدم لتقويض أسس الدولة وإعادة صياغة الهوية الوطنية بما يخدم استراتيجيات التغلغل والتخريب المستمرّة. هكذا، يتحوّل تفكيك الرواية الوطنية إلى أداة سياسية بامتياز، تُمهّد للمزيد من التفكّك المؤسّساتي وتُدخِلُ المجتمعَ في حلقة جديدة من الاضطراب والهيمنة.

زيارة البابا تأتي لتنفخ في الروح اللبنانية نسيمَ رجاءٍ جديدٍ، ولتُعيد إلى الحياة السياسية ما فقدته من شرعيتها الأولى، من خلال استعادة الرواية التأسيسية ومهابَة الأفعال التي شيّدت الكيان. ولا تندرج الزيارة في معنى السياسة التقليدي، ذاك الذي يُقاس بميزان القوى داخل مجتمعٍ أنهكته الانقسامات؛ بل تنتمي إلى مجال آخر، أكثر توهّجًا وروحيةً، يحمل بصمةً أوغسطينيةً واضحةً تُعلي شأن الخدمة على حساب السلطة. ويتجلّى البُعد الإنجيلي والديَاكاني لهذه الرحلة في رفضٍ حاسم لسياسات الهيمنة، وفي ريبة عميقة تجاه مغريات السلطة وأوجُه انحرافها.

ومن هنا، تغدو زيارة الحبر الأعظم دعوةً إلى “أنسنة” السياسة عبر دولة القانون، وضمان الحقوق والحريات، والعودة إلى الينابيع الثقافية والروحية التي تمنح المجتمع توازنه ومعناه. بهذا المعنى، لا يأتي البابا ليُعيد ترتيب التحالفات، بل ليذكّر بأنّ السياسة، حين تُختزَلُ إلى صراع نفوذ، تفقد روحها؛ وأنّ الخلاص يبدأ باستعادة قيم العدالة والكرامة، والعيش المشترك بوصفها أساس الدولة لا أدواتها.

ومع ذلك، يبقى السؤال الكبير مفتوحًا: هل تستطيع الومضة الروحية الاستثنائية، تخفيف وطأة التفكّك المتدرّج في لبنان، وفتح الباب أمام مسارات دبلوماسية مبتكرة أو حلول في إقليم متصدّع وسلامٍ أهلي يُستنزف يومًا بعد يوم؟ الإجابة تبقى معلّقةً… والتعقيدات تُبقي الوضع رهينة عدم اليقين.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us