الوقت يختبر السلطة: لا مراوغة مع السلام!


خاص 8 كانون الأول, 2025

لبنان أمام خيار لا يقبل التأجيل. الوقت ليس مناسباً للشعارات ولا للمراوغة. إما أن تُمسك الدولة بزمام المبادرة: تفاوض، تعلن، وتبادر إلى رسم خطة واضحة للانخراط في مشروع السلام المطلوب للمنطقة، وإما ستجد نفسها مجدداً خارج مشهد يُعاد رسمه مع إسرائيل

كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:

لم يعد ما يجري في لبنان مجرّد تراكُم أزمات أو تبادل رسائل سياسية عابرة. ثمة مشهد جديد يتشكّل، تتقاطع فيه الإشارات الدولية والإقليمية والداخلية على نحو يكشف حقيقة واحدة: العالم يتحدّث إلى لبنان بصفته دولة يجب أن تقوم… بينما يكتفي بعض أركان السلطة بالاستماع. وقد يكون ذلك أخطر ما في المشهد.

فما بين زيارة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر إلى بيروت، وتعيين السفير السابق المحامي سيمون كرم على رأس الوفد اللبناني المفاوض ضمن إطار “الميكانيزم” مع إسرائيل، وظهور السفير الإسرائيلي في واشنطن عبر منصة This Is Beirut اللبنانية للمرة الأولى، ورسائل الكونغرس التي تضع الحكومة أمام مسؤوليات سيادية مُهملة، وتصعيد حزب الله بلهجة تحمل قلقاً أكثر مما تحمل قوة… يتّضح أنّ لبنان لم يعد إطلاقاً “موضوعاً داخلياً”، بقدر ما أصبح قضية دولية، لا يوفّرها المبعوث الأميركي توم باراك بتصريحاته الجدلية التي لا تخلو من التلميح إلى تهديد نهائية الكيان اللبناني، أو إلى التعامل معه من بوابة سوريا.
هذه ليست مبالغة. إنها لحظة مفصلية تتطلب رجال دولة يعملون لتثبيت مشروع قيام الدولة، ووضع حدّ لموروثات “دويلة حزب الله”.

مخاطبة اللبنانيين ومحاكمة الدولة!
ظهور السفير الإسرائيلي عبر منبر لبناني (This Is Beirut) لم يكن خرقاً إعلامياً بقدر ما كان تشخيصاً للفجوة الهائلة بين الدولة ومجتمعها. فالسفير لم يتوجّه إلى حكومة أو رئيس أو مؤسسة رسمية، بل توجّه مباشرة إلى الرأي العام اللبناني، وكأنه يقول: “ثمة مجتمع يمكن مخاطبته”.
بهذا، يكون الخطاب قد وجّه ضربة سياسية دقيقة: إسرائيل تُظهِر استعداداً للتعامل مع لبنان كدولة… حين تقوم الدولة وينتفي خطر تكرار “حزب الله”، مغامرة مماثلة لتلك التي ارتكبها السنوار في “7 أكتوبر”.
والمفارقة أنّ هذا الطرح، على ما يثيره من حساسيات، يكشف حقيقة يهرب منها الجميع. الخصومة اليوم لم تعد بين دولتين، بل بين دولة معلّقة ورواسب سلاح دويلة إيرانية تحنّ للتحكّم بمفاصل القرار اللبناني.
في المقابل، جاءت رسائل الكونغرس الأميركي لتضع الحكومة اللبنانية أمام حتمية تنفيذ قراراتها. للمرة الأولى يوجَّه إنذارٌ سيادي إلى المسؤولين المعنيين.
الرسالة ليست دعوة إلى صدام داخلي كما حاول البعض تصويرها، بل محاكمة سياسية لحكومة تدّعي السيادة وتقبل بوجود قوة مسلّحة تفوق قدراتها وتتحكّم بخياراتها.
نقلت الرسالة الأميركية صراحة ما يُهمس به في الكواليس منذ سنوات. العالم لم يعد مقتنعاً بأنّ الدولة اللبنانية “مغلوبة على أمرها”. إنها بالنسبة إليه “غير راغبة” لا “غير قادرة” على نزع سلاح كافة الفصائل والميليشيات المسلحة.

حزب الله… خطاب فقدان السيطرة
في الضاحية، يكشف خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم تراجعاً واضحاً في الثقة. التحذير من “غرق الجميع” والحديث عن خطر “الإلغاء” ليسا لغة المنتصر؛ بل خطاب حزب يلمس اهتزازاً في التوازنات التي طالما استمد منها نفوذه.
فالحزب يدرك أنّ انطلاق مسار التفاوض الرسمي بين لبنان وإسرائيل تجاوز قواعد الاشتباك التي رسمها هو بنفسه، قبل وبعد دخوله في عملية ترسيم الحدود البحرية. لذلك جاء هجومه على الحكومة بهذه الحدّة، معتبراً أنّ موضوع المشاركة برئيس مدني في لجنة وقف إطلاق النار – “الميكانيزم”، ليس سوى سقطة جديدة تُضاف إلى ما يعتبره “خطيئة” قرار الخامس من آب، ذلك القرار الذي وضع إطاراً زمنياً واضحاً لنزع سلاح جميع الميليشيات، بما فيها “حزب الله”. وهو يدرك جيداً أنّ الخسارة هذه المرّة، إذا اكتملت عناصرها، ستكون باهظة وحتمية.
ويتزامن قلق دويلة حزب الله مع انخراط ثلاث قوى، على اختلاف مساراتها، في الدفع باتجاه واحد، وللمرة الأولى منذ اتفاق الطائف:
إسرائيل: تريد مخاطبة اللبنانيين مباشرة.
واشنطن: تريد قيام دولة فعلية تحتكر السلاح وتبسط سلطتها على كامل أرضها وحدودها.
حزب الله: يشعر بأنّ مشروعيته تتهاوى بفعل انتفاء دوره.
وأمام تقاطع هذه المسارات، وعلى وقع الضغوط وتقلّص الفرص، يقف المسؤولون اللبنانيون أمام سؤال وجودي:
هل ينجح مشروع قيام الدولة، أم يسقط أمام ارتياح المبعوث الأميركي توم باراك “للإنجازات التي تحقّقت في سوريا”، ودعمه للقائمين عليها (الرئيس أحمد الشرع)، ومطالبته المتجدّدة بجمع سوريا ولبنان معاً باعتبارهما “حضارة واحدة”، بعد اعتراضه على ما يصفه بـ”أخطاء الغرب منذ سايكس-بيكو؟”

لبنان أمام خيار لا يقبل التأجيل. الوقت ليس مناسباً للشعارات ولا للمراوغة. إما أن تُمسك الدولة بزمام المبادرة: تفاوض، تعلن، وتبادر إلى رسم خطة واضحة للانخراط في مشروع السلام المطلوب للمنطقة، وإما ستجد نفسها مجدداً خارج مشهد يُعاد رسمه مع إسرائيل… مشهد لا يأخذ في الاعتبار الدور الذي يفاخر به اللبنانيون ويستحضره العالم عند الحديث عن رسالة لبنان وهويته.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us