الفجوة المالية تهدّد مستقبل المودعين… والحكومة “تتفرّج”!


خاص 13 كانون الأول, 2025

الصدمة الكبرى في النسخة التاسعة من المسودة هي إعفاء الدولة نفسها بالكامل من تحمّل أي كلفة. علمًا أنّها الطرف الأول في المسؤولية، من الإنفاق العشوائي، إلى هدر 45 مليار دولار على الكهرباء، إلى توظيفاتٍ غير قانونيةٍ، مرورًا بفشل مؤتمر “سيدر”، ودعم السلع المستوردة الذي التهم 14 مليار دولار من الاحتياطي، وصولًا إلى التعثّر عن سداد اليوروبوند عام 2020.

كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:

في خضمّ النقاشات الحكومية المتواصلة حول مشروع قانون معالجة الفجوة المالية وتحديد مصير الودائع، يتصاعد القلق داخل الأوساط الاقتصادية والمصرفيّة من المسارات التي قد تتخذها الخطة الرسمية المنتظرة. فمع كل تسريبٍ لمسودةٍ جديدةٍ، تتّضح ملامح خلاف عميق حول كيفيّة توزيع الخسائر، وحول حجم الدور الذي يفترض بالدولة أن تتحمّله مقابل القطاع المصرفي والمودعين، في وقتٍ لا يزال الاقتصاد يعيش واحدةً من أسوأ أزماته منذ تأسيس الجمهورية.

وبينما تتعامل المصارف مع واقعٍ ماليٍ شديد الهشاشة يهدّد قدرتها على الاستمرار، تكشف مصادر مصرفية عن مخاوف جدّيةٍ من أن يؤدّي تحميلها العبء الأكبر من الخسائر إلى انهيارٍ شاملٍ للقطاع. هذه المخاوف تتقاطع أيضًا مع قراءة أعمق قدّمها الخبير الاقتصادي الدكتور نسيب غبريل، الذي يرى أنّ مسودة القانون المتداولة بنسختها التاسعة تبقى منقوصةً، وأنّ الدولة الطرف المسؤول الأوّل عن تراكم الخسائر تتنصّل بالكامل من دورها في أي حلّ مطروح. وبين تحذيرات المصارف وتحليل الخبراء، تبدو البلاد أمام مسودة قانون قد تعيد رسم ملامح القطاع المالي لسنوات طويلة، وسط غياب الإجابات الحاسمة حول مصير الودائع والثقة بالمنظومة المالية.

في هذا السياق، يُشير الخبير الاقتصادي الدكتور نسيب غبريل إلى أنّ البلاد “دخلت في مرحلةٍ طويلةٍ من الانتظار منذ أن باشرت الحكومة العمل على مشروع قانون تحديد مصير الودائع أو ما يُعرف بمعالجة الفجوة المالية”. ويوضح أنّ النسخة التاسعة من مسودة المشروع، والتي تسرّبت إلى العلن سواء بقصدٍ أو من دون قصد، جاءت على ما يبدو لقياس ردود الفعل لدى المودعين والمصارف والجهات المعنية، فيما تعمل الحكومة اليوم بحسب ما تسرّب إليه على نسخةٍ أكثر تقدّمًا تحمل الرقم 16.

ويقول غبريل إنّ النسخة المتداولة “لا تتضمّن كل التفاصيل، إلّا أنّ جوهرها على ما يبدو سيبقى نفسه: “دفع أول مئة ألف دولار لكلّ مودع نقدًا وعلى مدى أربع سنوات، فيما تُحوَّل المبالغ التي تتجاوز هذا السقف إلى سنداتٍ طويلة الأجل مدعومةً من أصول مصرف لبنان، وذلك وفق شرائح: بين 100 ألف ومليون دولار، ثم بين مليون وخمسة ملايين، وما فوق الخمسة ملايين، على آجالٍ تختلف باختلاف حجم الوديعة”.

من أين ستأتي السيولة؟

يشرح غبريل أنّ الشق النقدي المتعلّق بتسديد المئة ألف دولار سيحتاج إلى مصادر سيولة تُقدّر على الأَقَلّ بما بين 20 و22 مليار دولار، وهي أرقام غير رسمية بعد. ويضيف: “تسديد هذا الجزء سيتمّ من احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، البالغ نحو 12 مليار دولار، منها 11.2 مليار دولار احتياطي إلزامي تعود أصلًا للمودعين، إضافةً إلى ما تملكه المصارف من سيولةٍ وما تقدر على المساهمة به”.

ويشدّد على أنّ “دور المصارف في هذا الجانب قائم حكمًا لأنّها تستخدم أموالها وسيولتها، لكن السؤال الجوهري: أين مساهمة الدولة؟، لافتًا إلى أنّ السندات التي ستصدر للمودعين “ستكون مدعومة حُكمًا من أصول مصرف لبنان، لا من أموال الخزينة”.

ويُذكّر غبريل بأنّ “قانون النقد والتسليف، ولا سيما المادة 113، ينصّ صراحة على أنّ الخزينة مُلزمة بتغطية خسائر مصرف لبنان، “لكن المشروع المطروح يتجاهل هذا الالتزام كليًّا”.

ويطرح غبريل علامات استفهام عدّة حول نوعيّة الأصول التي ستدعم السندات: “هل نتحدث عن احتياط الذهب البالغ 17.7 مليون أونصة وقيمتها حاليًّا” 38.4 مليار دولار؟ هل تشمل شركة طيران الشرق الأوسط؟ هل تشمل عقارات؟ لا شيء واضح في المسودة”. ويؤكّد أنّ غياب هذه التفاصيل “يضرب مصداقية الطرح من أساسه”.

ويُظهر غبريل بالأرقام أنّ عبء السداد النقدي سيقع عمليًّا على المصارف وحدها: “المصارف تمتلك اليوم نحو 6 مليارات دولار فقط من السيولة، منها أكثر من مليارَيْ دولار غير قابلة للاستخدام لأنّها مخصصة لتغطية الودائع الفريش. أي أنّ السيولة المتاحة فعليًّا لا تتجاوز أربعة مليارات، فيما المصرف المركزي لديه 11.2 مليارًا احتياطي إلزامي هي ملك للمودعين أساسًا. مجموع هذه الأرقام لا يغطّي الحدّ الأدنى المطلوب للدفعات النقدية”.

ويوضح أنّه “حتّى بيع جميع أصول المصارف من عقارات ويوروبوند لن يوفّر أكثر من 8.5 مليارات دولار اضافية”، ما يجعل الفجوة النقدية “عميقةً وغير قابلة للردم من دون مشاركة الدولة”.

ويتخوّف غبريل من أنّ “تحميل المصارف وحدها مسؤولية التسديد سيؤدّي إلى ردود فعل خطيرة: “عدم وضوح المسودة قد يدفع بعض مجالس إدارة المصارف إلى التفكير بالخروج من السوق وتسليم مفاتيحها لمصرف لبنان. وفي حال إعلان إفلاس أي مصرف، سيحتاج المودعون إلى سنوات طويلة لاستعادة جزء بسيط من حقوقهم، وهذا ما كانت المصارف تتجنّبه منذ بداية الأزمة”.

ويشيرُ إلى أنّ “حاكم مصرف لبنان كان قد أكّد أنّ إعادة الهيكلة ستكون منظّمةً بحيث لا يخسر المودع وديعته، لكنّ هذا الأمر يصبح صعبًا إذا عجزت المصارف عن توفير السيولة المطلوبة لشريحة المئة ألف دولار”. ويشرح غبريل أنّ “الهدف من السندات التي سيُصدرها مصرف لبنان هو تغطية ما تبقّى من الودائع بعد عدم احتساب الودائع المشبوهة المصدر وشطب الفوائد وإعادة تحويل إلى الليرة الودائع التي حوَّلها المودعون الى دولار بعد اندلاع الازمة — أي ما يعادل نحو 35 مليار دولار — لكن لا الدولة ولا المصرف المركزي ولا المصارف تملك هذا المبلغ نقدًا”. ويؤكد أنّ هذه السندات “لن تكون تضخميةً لأنها تمثّل أصولًا ماليةً قابلةً للتداول وليست سيولةً مباشرةً”.

ويرى غبريل أنّ “الصدمة الكبرى في النسخة التاسعة هي إعفاء الدولة نفسها بالكامل من تحمّل أي كلفة. ويُعدّد الأسباب التي تجعل الدولة الطرف الأول في المسؤولية، من الإنفاق العشوائي، إلى هدر 45 مليار دولار على الكهرباء، إلى توظيفاتٍ غير قانونيةٍ، مرورًا بفشل مؤتمر “سيدر”، ودعم السلع المستوردة الذي التهم 14 مليار دولار من الاحتياطي، وصولًا إلى التعثّر عن سداد اليوروبوند عام 2020”.

ويقول: “الدولة تتصرّف وكأنّها طرف خارجي يُراقب الأزمة من بعيد، لا كأنّ السلطة السياسية هي التي صنعتها من خلال سوء استخدام السلطة السياسية وسوء إدارة القطاع العام”.

غياب مشاركة الدولة ينسف الثقة لسنواتٍ طويلةٍ، ويؤكّد غبريل أنّ أي مشروع لا تتولّى الدولة فيه تحمّل جزءٍ من الكلفة “لن يحقّق استعادة الثقة، لا بالقطاع المصرفي ولا بالاقتصاد ولا بالحكومة نفسها”. ويختم: “لا يمكن إعادة الثقة بالمصارف قبل إعادة الثقة بالمؤسسات العامة والسلطة السياسية. وإذا لم تتحمّل الدولة مسؤولياتها، فلن تكون هناك أي إمكانية لاستعادة الثقة، لا اليوم ولا في السنوات المقبلة”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us