“قانون الفجوة المالية” يشرعن الإفلاس: غليان في الشارع.. مصارف تلوّح بالإقفال وتحذيرات من “الوهم المالي”

ما سيجري اليوم في بعبدا ليس خطة للتعافي، بل محاولة لدفن “الجثة الاقتصادية” دون تشريح أسباب الوفاة. فبين مطرقة إضراب المصارف وسندان غضب المودعين، وتخبّط حكومي يعالج النتائج ويتجاهل الأسباب الهيكلية، يتّجه لبنان نحو فصل جديد من الانهيار، حيث لا حلول تلوح في الأفق سوى توزيع الخسائر على من لم يرتكب الجرم
كتبت إليونور أسطفان لـ”هنا لبنان”:
تتّجه الأنظار اليوم إلى قصر بعبدا، حيث تعقد الحكومة جلسة قد تكون الأخطر في مسار الأزمة اللبنانية، لمناقشة ما يُسمى “قانون معالجة الفجوة المالية”. إلا أنّ هذه الجلسة لن تمر بهدوء؛ فالبلاد تقف على فوهة بركان اجتماعي ومصرفي. فبينما تحشد جمعيات المودعين لتظاهرات غاضبة لمحاصرة القصر الجمهوري رفضاً لشطب أموالهم، تلوّح المصارف بإضراب شامل قد يشل الحركة المالية بالكامل، اعتراضاً على تحميلها وزر الأزمة من طرف واحد، في مشهد سوداوي ينذر بانفجار شامل.
يأتي هذا المشروع المسرّب للإعلام ليثبت العجز الحكومي الفادح في اجتراح الحلول، حيث يرى مراقبون أنّ السلطة لا تسعى لحل الأزمة، بل لتصفية الخسائر “دفترياً” على حساب الحلقة الأضعف.
وفي قراءة اقتصادية نقدية لجوهر هذا المشروع، فكك الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة في حديث لموقع “هنا لبنان”، الألغام المزروعة في هذا القانون، معتبراً أن مقاربة الحكومة لمعالجة الفجوة المالية تنطوي على إهمال فاضح – سواء كان متعمداً أو ناتجاً عن قلة دراية – للأسباب الحقيقية التي أدت إلى الانهيار.
وأشار عجاقة إلى أنّ مشروع القانون الذي يحمّل الحكومة المسؤولية الكاملة عن الانهيار، قد يبدو للوهلة الأولى انتصاراً، لكن السؤال الجوهري يبقى: “هل هذا الاستنتاج نابع فعلاً من فهم ما حصل فعلياً؟ أم هو مجرد إرضاء للرأي العام؟”.
ويشرح عجاقة بالأرقام كيف أنّ الأزمة هي نتاج “العجز المزدوج” (عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري)، وكيف تم تبديد أموال المودعين في “وهم مالي”. ففي مرحلة ما قبل الأزمة، بلغت الودائع المصرفية ذروتها متجاوزة 170 مليار دولار، مما خلق انطباعاً مضلّلاً بأنّ الاقتصاد يدخر بكثافة. ويوضح عجاقة لـ”هنا لبنان”: “الحقيقة كانت مختلفة تماماً؛ فجزء كبير من هذه الودائع كان قادماً من تحويلات خارجية لا من إنتاج محلي، بينما ظل الاستهلاك مرتفعاً جداً (من السيارات إلى العقارات)، مما جعل الادخار الخاص الحقيقي منخفضاً، بل وسلبياً”.
ويضيف عجاقة، أنه حين تباطأت التحويلات وانهارت الثقة في 2019، انهار النظام كله، “لأن الاقتصاد لم يكن يستند إلى مدخرات حقيقية، بل إلى وهم مالي هش”. وتكمن الخطورة في أنّ انخفاض الادخار الخاص يعني أنّ القطاع الخاص ينفق أكثر مما يجني، وبالتالي يقترض، مما يعمق العجز الخارجي.
وبحسب عجاقة، فإنّ “حجم الودائع ليس سوى مؤشر سطحي”، مشدداً على أنّ الودائع الضخمة، خصوصاً بالدولار، استُخدمت لتمويل عجز الخزينة وفاتورة استيراد لم تغطها الصادرات، وذلك عبر تثبيت سعر الصرف.
ويختم عجاقة حديثه بتشخيص قاسٍ للواقع الهيكلي: “عاش لبنان فوق إمكانياته لعقود، من خلال استهلاك هائل معظمه مستورد، وعجز في الموازنة ناتج عن فساد هائل في الإدارة. الودائع كانت تؤخر الكارثة فقط، والمطلوب اليوم ليس إعادة تضخيم الأرقام، بل بناء قدرة فعلية على الادخار”.
بناءً على هذه المعطيات، يبدو أن ما سيجري اليوم في بعبدا ليس خطة للتعافي، بل محاولة لدفن “الجثة الاقتصادية” دون تشريح أسباب الوفاة. فبين مطرقة إضراب المصارف وسندان غضب المودعين، وتخبط حكومي يعالج النتائج ويتجاهل الأسباب الهيكلية التي ذكرها عجاقة، يتجه لبنان نحو فصل جديد من الانهيار، حيث لا حلول تلوح في الأفق سوى توزيع الخسائر على من لم يرتكب الجرم.




