صندوق التعويضات يُطلق الإنذار: 350 مدرسة فقط تلتزم من أصل 1350!

تبدو أزمة صندوق تعويضات المعلّمين أكثر من مجرّد خلل مالي أو إداري، بل اختبارًا حقيقيًّا لمدى التزام الدولة وإدارات المدارس بحقوق من شكّلوا عماد العملية التربوية لعقود. فترك آلاف الأساتذة المتقاعدين لمواجهة مصيرهم وحدهم، في ظلّ شيخوخة قاسية وانهيار معيشي غير مسبوق، يهدّد ما تبقّى من ثقة بالقطاع التربوي ويضرب أسس العدالة الاجتماعية.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في وقتٍ يرزح فيه القطاع التربوي في لبنان تحت وطأة أزماتٍ متلاحقةٍ، تتجاوز التحدّيات حدود الأقساط والرواتب لتطال أحد أكثر الحقوق حساسيّة: تعويضات المعلّمين بعد سنوات طويلة من الخدمة. فمع الانهيار المالي المستمرّ، وغياب الحلول الجذريّة، يطفو إلى السطح ملف صندوق تعويضات أفراد الهيئة التعليميّة في المدارس الخاصّة، كقنبلةٍ موقوتةٍ تهدّد آلاف الأساتذة الذين أفنوا أعمارهم في التعليم، ليجدوا أنفسهم اليوم أمام مستقبلٍ ضبابيٍّ وحقوقٍ مهدورةٍ.
الأزمة لم تعد مجرّد أرقام أو تأخير إداري، بل باتت مسألة كرامة اجتماعيّة ومصير شريحة واسعة من المعلّمين المتقاعدين، الذين يعتمدون على هذه التعويضات كشبكة أمان أخيرة في ظلّ تآكل القدرة الشرائيّة وغياب أي مظلّة حماية فعليّة. وبين تقاعُس الدولة، ومماطلة عدد كبير من إدارات المدارس الخاصّة في تسديد مُستحقّاتها القانونيّة، يقترب الصندوق من شفير العجز الكامل، ما يهدّد بتوقّف دفع التعويضات نهائيًا.
في هذا السياق، رفعت نقابة المعلّمين في المدارس الخاصّة الصوت محذّرةً من كارثةٍ وشيكةٍ، ودقّت ناقوس الخطر، مُطالبةً بتحمّل المسؤوليات قبل فوات الأوان. في هذا الإطار، شرح العضو في المجلس التنفيذي لنقابة المعلّمين باتريك رزق الله لموقع “هنا لبنان”، خطورة الوضع بالأرقام والوقائع، كاشفًا حجم المخالفات، ومؤكّدًا أنّ ما يجري يضع مستقبل آلاف الأساتذة على المحكّ، ويفتح الباب أمام خطوات تصعيديّة لحماية حقوقهم.
وأكّد رزق الله أنّ أكثر من ألف مدرسة خاصّة لم تلتزم حتى الآن بدفع المساهمات المتوجّبة عليها، موضحًا أنّ “من أصل 1350 مدرسة، هناك فقط 350 تلتزم، فيما الباقي يماطل على الرغم من أن القانون الجديد واضح، ومُقرّ بالاتفاق مع اتحاد المؤسّسات التربويّة الخاصّة”. وأشار إلى أنّ القانون المعدّل خفّض نسبة المساهمة من 8% إلى 6%، “إلّا أنّ التّسهيلات لم تقابلها التزامات فعليّة من جميع المدارس، الأمر الذي يهدّد بتوقّف قدرة الصندوق على تسديد تعويضات الأساتذة الذين بلغوا سنّ التقاعد”.
وأضاف رزق الله: “نحن أمام خطر حقيقي، فكيف يمكن أن يحصل أكثر من 5000 أستاذ متقاعد على حقوقهم؟ هؤلاء أنهكهم العمر وأفنتهم الخدمة، ويعيشون اليوم بأقلّ من الحد الأدنى، فيما تتقاعس بعض المدارس عن أداء واجباتها الماليّة”. وتابع: “أعطينا مهلةً حتى منتصف كانون الثاني، وبعدها سيجتمع المجلس التنفيذي برئاسة النقيب نعمة محفوض وستكون لنا خطوات تدريجيّة، لأنّ المعلّمين لا يمكنهم الانتظار أكثر، وقد نلجأ إلى القضاء لحماية حقوقهم”.
أمّا ما يتعلّق بأموال الصّندوق التي تبخّرت بعد الانهيار المالي، فأكّد رزق الله أنّ صندوق التعويضات كان يملك حوالي 800 مليون دولار، “لكنّ هذه الأموال فقدت قيمتها بعد الأزمة نتيجة تقاعس الدولة. ومع ذلك، فإنّ الدولة اليوم مطالبة بإيجاد حلّ جذري لسدّ الفجوة، وتأمين الأموال المطلوبة لإنقاذ ما تبقى من كرامة المعلّم”. وختم رزق الله مؤكّدًا أنّ “الدفاع عن صندوق التّعويضات ليس فقط دفاعًا عن رواتب الأساتذة المتقاعدين، بل هو دفاع عن كرامة مهنة التعليم، وعن مستقبل القطاع التربويّ برمّته”.
أمام هذا المشهد القاتم، تبدو أزمة صندوق تعويضات المعلّمين أكثر من مجرّد خلل مالي أو إداري، بل اختبارًا حقيقيًّا لمدى التزام الدولة وإدارات المدارس بحقوق من شكّلوا عماد العملية التربوية لعقود. فترك آلاف الأساتذة المتقاعدين لمواجهة مصيرهم وحدهم، في ظلّ شيخوخة قاسية وانهيار معيشي غير مسبوق، يهدّد ما تبقّى من ثقة بالقطاع التربوي ويضرب أسس العدالة الاجتماعية.
وفي انتظار ترجمة التحذيرات إلى أفعال ملموسة، تبقى الأنظار متّجهة إلى الجهات المعنيّة لتحمّل مسؤولياتها، قبل أن يتحوّل ناقوس الخطر الذي تدقّه نقابة المعلّمين إلى انهيار فعلي لا يمكن تداركه. فحماية صندوق التعويضات اليوم ليست مطلبًا فئويًا، بل ضرورة وطنية للحفاظ على كرامة المعلّم، وصون مستقبل التعليم في لبنان.




