لبنان بين اتفاقيات أبراهام والإخوان المسلمين

ترجمة “هنا لبنان”
كتب Hussain Abdul-Hussain لـ”This is Beirut“:
لبنان يواجه خيارًا حاسمًا على مستوى التموضع على خريطة التحالفات الإقليمية: فمن ناحية، هناك تحالف يضم الإمارات وإسرائيل والبحرين والمغرب، ويسعى للسلام والازدهار ورفع مستوى المعيشة، مستلهمًا ما يعرف باتفاقيات أبراهام. ومن ناحية أخرى، هناك التحالف الذي تقوده قطر وتركيا، بدعم من سوريا والجزائر وتونس، والذي يرفض نظم الحكم الغربية ويطمح لفرض أنظمة إسلامية مستوحاة من نموذج الإخوان المسلمين.
وحتى وقت قريب، كانت إيران، بنظامها الديني القائم على حكم رجال الدين، تُعدّ القوة الإسلامية الأبرز في المنطقة وفي لبنان على وجه الخصوص. ويستند هذا النظام إلى نموذج إيديولوجي يقوم على سلطة دينية مطلقة، تُشبه في جوهرها فكرة الحكم التي تتبنّاها جماعة الإخوان المسلمين، ولكن بصيغة شيعية.
لكن هذه الهيمنة تراجعت في الآونة الأخيرة، بعدما تعرّضت الأذرع التابعة لإيران لضربات قاسية في أكثر من ساحة إقليمية، ما أدّى إلى إضعاف نفوذها وتقليص قدرتها على التأثير. ونتيجة لذلك، تلقّى النظام الإيراني نفسه ضربة موجعة، أنهت مرحلة برز فيها اللاعب الإسلامي بصفته الأقوى على مستوى المنطقة.
وتضمّ الدول التي تعتمد سياسة التريّث وتفادي الحسم كلًّا من السعودية ومصر والأردن والكويت وسلطنة عُمان وموريتانيا. هذه الدول تفضّل الانتظار ومراقبة التطورات، وغالبًا ما تتبنّى خطابًا شعبويًا يحذّر من أنّ “إسرائيل تشكّل خطرًا أكبر على العرب من إيران”. غير أنّ هذا الموقف لا ينبع من قناعة راسخة بقدر ما هو انعكاس لمخاوف حقيقية. فهذه الدول تخشى ردود الفعل العنيفة المحتملة من إيران ذات التوجّه الإسلامي، وكذلك من تركيا وقطر، في حال اتخذت مواقف أكثر وضوحًا. في المقابل، لا ترى في إسرائيل تهديدًا مباشرًا لها على هذا المستوى. وهكذا، يصبح هذا الخطاب وسيلةً لتفادي الصدام مع قوى إقليمية يُنظر إليها على أنها أكثر استعدادًا للانتقام، لا تعبيرًا دقيقًا عن ترتيب فعلي لمصادر الخطر في المنطقة.
في المقابل، تبقى دول مثل لبنان والعراق وليبيا واليمن عاجزة عن حسم موقعها ضمن خريطة الاصطفافات الإقليمية. ويُعدّ لبنان المثال الأبرز على هذا التخبّط، وخير دليل وضعه منذ الاستقلال عام 1943. فعلى أبواب الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، دعت قوى وتنظيمات مسيحية لتحييد لبنان عن الصراع القائم آنذاك بين إسرائيل والفلسطينيين. واستند هذا الموقف إلى سرديّة تاريخية قدّمها المسيحيون عن أنفسهم، تصوّرهم كجزء من الفضاء الغربي أكثر ممّا هم جزء من العالم العربي أو الإسلامي.
في المقابل، ردّ بعض المسلمين الذين لم تستهوِهم فكرة لبنان كدولة مستقلة نهائية، مطالبين بانضمامه إلى مشروع قومي عربي أوسع أو إلى دولة إسلامية، ومتّهمين المسيحيين بالانعزال، واعتبارهم أداةً بيد الغرب الإمبريالي و”الصهيونية”. هذا الانقسام ساهم في تعميق الشرخ حول هوية لبنان وخياراته السياسية.
وفي ظلّ هذه الانقسامات الحادّة، اندلعت حرب أهلية دامية استمرّت خمسة عشر عامًا، تكبّد اللبنانيون خلالها الأثمان الباهظة. وكان للفصائل الفلسطينية دور أساسي في تأجيج الصراع، تحت شعار “تحرير فلسطين”، ما زاد تعقيد المشهد الداخلي وأطال أمد الحرب.
ومع نهاية الحرب عام 1990، اضطرّ الطرفان لتقديم تنازلات متبادلة. وافق المسيحيون على تثبيت هوية لبنان كدولة عربية، في حين أقرّ المسلمون بسيادة لبنان واستقلاله كخيار نهائي، لا كمرحلة موقتة بانتظار الالتحاق بمشروع عربي أكبر. لكنّ هذا التفاهم لم يضع حدًّا للخلافات، إذ سرعان ما طُرح سؤال جديد لا يقلّ تعقيدًا: أيّ لبنان نريد بعد الحرب؟ وكيف يجب أن يكون شكله السياسي والاقتصادي ودوره في المنطقة؟
هذه المرّة، لم يعد الانقسام في لبنان قائمًا على مستوى مسيحي – إسلامي، بل اتخذ شكلًا مختلفًا: الصراع بين خيارَيْن متناقضَيْن، الاقتصاد والانفتاح من جهة، و”المقاومة” والصدام الدائم من جهة أخرى. كان رفيق الحريري، رجل الأعمال السنّي وصاحب العلاقات الوثيقة مع السعودية، يحمل مشروعًا واضحًا: دولة تقوم على الاقتصاد الحر والاستثمار وإعادة إعمار بيروت لتصبح نموذجًا شبيهًا بدبي. وفي المقابل، بُنِيَ حزب الله على رؤية مختلفة تمامًا. هذه الرؤية تتضح جليًّا في كتاب “مجتمع المقاومة” لنعيم قاسم، الذي كان آنذاك الرجل الثاني في الحزب وأصبح اليوم أمينه العام. وحسب الكتاب، لا بد وأن يبقى لبنان في حالة مواجهة دائمة، منحازًا إلى “المستضعفين”، وعلى رأسهم القضية الفلسطينية، في صراع مستمر ضد ما يسميه الحزب “قوى الاستكبار”، أي الولايات المتحدة والغرب.
في تلك المرحلة، فرض النظام السوري بقيادة بشار الأسد على لبنان البقاء ضمن ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، بقيادة حزب الله. ولكن مع إضعاف هذا المحور بعد الغزو الأميركي للعراق، رأى رفيق الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط فرصةً لإعادة التوازن. وجنبلاط، المعروف ببراغماتيّته، رأى حينها أنّ الولايات المتحدة جادّة في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.
لكن لبنان اختبر في العام 2005 نقطة تحوّل مفصلية، إذ اغتيل رفيق الحريري في عملية نُسبت إلى النظام السوري وحزب الله، ما فجّر انتفاضة شعبية أدّت إلى خروج الجيش السوري من لبنان. ومع اندفاع اللبنانيين لملء الفراغ وتحديد وجهة البلاد بعد الوصاية السورية، لخّص وليد جنبلاط الخيارات المطروحة بعبارة لافتة حين قال: “علينا أن نختار أي نموذج نريد، هانوي أم هونغ كونغ؟” في إشارة إلى بلد غارق في الحروب، أو آخر ركّز على التنمية وحقق ازدهارًا اقتصاديًا.
لكن كفّة الإسلام السياسي رجحت في النهاية. وفي العام 2006، فرض حزب الله نموذج “دولة المقاومة” وجرّ لبنان إلى حرب مدمّرة مع إسرائيل انتهت من دون حسم. ومنذ ذلك الحين، بدأ الطرفان التحضير لجولة جديدة، تحققت بعد 17 عامًا، في 8 تشرين الأول 2023، حين فتح حزب الله جبهةً جديدةً باسم الإسناد لغزّة، وأعاد لبنان مجددًا إلى قلب الصراع.
ثم فتحت الضربات القاسية التي وجّهتها إسرائيل لحزب الله، أمام بيروت نافذةً نادرةً للخروج من دوّامة الحروب المتكرّرة، والانتقال نحو مسار مختلف يقوم على السلام والنمو الاقتصادي والاستقرار. لكنّ اغتنام هذه الفرصة يتطلّب من لبنان التخلي عن خيار “المقاومة الإسلامية” والانضمام إلى اتفاقيات أبراهام.
غير أنّ المشكلة تكمن في الطبقة السياسية اللبنانية نفسها. فالقادة يفضّلون الانكفاء وحماية مواقعهم السياسية على اتخاذ قرارات مصيرية تنقذ البلاد. لا هم حسموا خيارهم بالانضمام إلى أي محور فاعل، ولا حتى التحقوا بمحور عربي تقليدي كالسعودية، بل يكتفون بمراقبة التطورات، وإطلاق المواقف الإعلامية، وانتظار “الأفضل” من دون أي استراتيجية أو خطة واضحة.
لكن مَن قال إنّ “الأفضل” آت؟ إسرائيل تنوي حسب التقديرات مواصلة ضرباتها بهدف إبقاء حزب الله في حالة إنهاكٍ دائمٍ أو القضاء عليه نهائيًا. وفي حال تحقّق ذلك، قد يجد لبنان نفسه أمام فراغ تملؤه نسخة أخرى من الإسلام السياسي، هذه المرّة ممثلةً بجماعة الإخوان المسلمين المدعومة من قطر وتركيا.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى الدور القطري المتنامي في لبنان، سواء عبر تمويل الجيش اللبناني بمئات ملايين الدولارات سنويًّا، أو من خلال دعم شخصيات وحركات سنّية صاعدة. كما يُنظر إلى صعود أحمد الشرع في سوريا، بدعم تركي – قطري، كعامل قد يسهّل تمدّد هذا التيار إلى الداخل اللبناني. ويُستدلّ على ذلك بنتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث حققت قوى محسوبة على هذا الخط تقدمًا ملحوظًا في الشارع السنّي.
وفي المحصلة، سيشكّل استبدال محور إيران ومحور “المقاومة” بمحور الإخوان المسلمين خطأً فادحًا، لا يقلّ خطورة عن المرحلة التي حلّ فيها حزب الله محل الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان. والنتيجة واحدة في الحالتين: لبنان رهينة صراعات إقليمية لا تخدم مصالحه بأي شكل من الأشكال.
إنّ إنقاذ لبنان يتطلّب قيادةً جريئةً، تقطع مع محاور الإسلام السياسي، سواء الإيراني أو التركي – القطري، ولا تراهن في الوقت نفسه على دول عربية تفتقر للتأثير. لبنان بحاجة لقيادة تختار الانفتاح على الغرب بوضوح، والانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، وتضع الاقتصاد والمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.
لبنان أمام خيارَيْن لا ثالث لهما: إمّا اتفاقيات أبراهام وإمّا دوامة الإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين.
مواضيع ذات صلة :
ترامب عن اتّفاقيات أبراهام: إذا انضمّت السعودية الكل سيلحق بها |




