مصير الودائع في مهبّ الضياع: قانون يُسقِط المحاسبة ويُحمّل المودعين ثمن الانهيار!

صندوق النقد الدولي يضغط لإقرار مشروع قانون “الفجوة” كشرط أساسي للتوصل إلى اتفاق إصلاحي تمويلي مع الحكومة اللبنانية، ويدفع باتجاه شطب رساميل المصارف كخطوة أولى، إلّا أنّ هذا المسار، وإن كان يُرضي الصندوق، قد يقضي عمليًّا على أي أمل بإعادة جذب الاستثمارات إلى القطاع المصرفي، محذّرًا من أنّ إقراره بصيغته الحالية قد يكرّس الاقتصاد النقدي واقتصاد الظلّ.
كتبت ناديا الحلاق لـ “هنا لبنان”:
في ظلّ واحدة من أعقد الأزمات المالية في تاريخ لبنان الحديث، يعود ملف الودائع المصرفية إلى واجهة النقاش العام باعتباره جوهر الانهيار وأحد أكثر عناصره حساسية على المستويَيْن الاقتصادي والاجتماعي. فبعد سنوات من تجميد أموال المودعين، وتآكل الثقة بالقطاع المصرفي، وتراجُع دور الدولة كمظلّة ضامنة للحقوق، طرحت الحكومة مشروع قانون يهدف إلى “تحديد مصير الودائع”، مقدِّمةً إياه كمدخل أساسي لمعالجة الخسائر واستعادة الانتظام المالي.
غير أنّ هذا المشروع، الذي يُفترض أن يشكّل حجر الأساس في أي خطة تعافٍ جدية، أثار موجة واسعة من التحفّظات والأسئلة، لا سيما لجهة توزيع الخسائر، وتحديد المسؤوليات، ومدى واقعية الآليات المقترحة للتنفيذ. فهل يعكس النص المقترح قراءة دقيقة لأسباب الأزمة وجذورها؟ وهل يستند إلى قدرات مالية فعليّة تسمح بتطبيقه، أم أنّه يكتفي بترحيل المشكلة على مدى سنوات طويلة من دون ضمانات واضحة؟
في هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور نسيب غبريل أنّ مشروع قانون “تحديد مصير الودائع” الذي أعلنت عنه الحكومة يشكّل محطةً مفصليةً في مسار معالجة الأزمة المالية، إلّا أنّه، بصيغته الحالية، لا يحقّق الهدف الأساسي المتمثّل باستعادة الثقة، بل يعاني من ثغرات جوهرية تتعلّق بالمسؤوليات والقدرات التنفيذية والعدالة بين المودعين.
مشروع القانون ومسؤولية الدولة
يشير غبريل، في حديث لـ”هنا لبنان”، إلى أن الحكومة أعلنت عن مشروع قانون استغرق وقتًا طويلًا في التحضير، وكان من المفترض إنجازه في منتصف عام 2025، إلّا أنّه لم ينضجْ إلّا في نهاية السنة. ويذكّر بأن هذا المشروع ليس الأول من نوعه، إذ كانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قد أعدّت مشروعًا مماثلًا في 8 شباط 2024 ورفعته إلى مجلس الوزراء، لكن لم تتمّ دراسته آنذاك بسبب وضع الحكومة في تصريف الأعمال. ويتحفّظ غبريل على استخدام مصطلح “الفجوة المالية” في ميزانية مصرف لبنان، لِما يوحي به من تحميل المصرف المركزي مسؤوليّة الهدر، في حين أن جوهر الأزمة، بحسب رأيه، يعود إلى سوء استخدام السلطة السياسية، وسوء إدارة القطاع العام، وسياسات مالية واقتصادية ركّزت على تثبيت سعر الصرف وتمويل حاجات الدولة، من دون إصلاحات بُنيوية ومن دون حوكمة وإدارة رشيدة، وشفافيّة في إدارة القطاع العام ومؤسّساته. ويُضيف أنّ المشروع كان يُفترض أن يُشكّل “صدمةً إيجابيةً” تُعيد بعض الثقة إلى المؤسّسات العامة والنظام المالي، إلّا أن تغييب مسؤولية الدولة بشكل شبه كامل، واعتماد نصوص ضبابيّة لتفادي أي التزام واضح، أفقداه هذا الدور.
آلية تسديد الودائع والسيولة المتاحة
ينصّ المشروع على تسديد أول 100 ألف دولار لكل مودع على مدى أربع سنوات نقدًا، فيما تُعالج المبالغ التي تفوق هذا السقف عبر أدوات مالية طويلة الأجل، تمتدّ بين 10 و20 سنة، ومدعومة بأصول مصرف لبنان.
لكنّ غبريل يلفت إلى أنّ الحكومة تفرض جدول سداد يناهز 21 إلى 22 مليار دولار خلال أربع سنوات، من دون إجراء تقييم شامل للسيولة المتاحة أو اختبارات ضغط (Stress Tests) جدّية للتأكد من قدرة مصرف لبنان والقطاع المصرفي على الالتزام بهذا المسار. ويؤكّد أنّ السيولة الصافية المتوافرة في كامل القطاع المصرفي لا تتجاوز 6.5 مليارات دولار، حتى في حال بيع جميع الأصول والفروع الخارجية، في مقابل التزامات تفوق 22 مليار دولار. أمّا مصرف لبنان، فيملك نحو 12 مليار دولار كاحتياطي سائل، إلّا أن 8 مليارات منها تشكّل احتياطيًا إلزاميًا هو في الأصل ودائع للمصارف، ما يطرح تساؤلات حول كيفية احتساب هذه الأموال ودورها الفعلي في خطة السداد.
علاقة الدولة بمصرف لبنان والمصارف
يتوقف غبريل عند عدم التزام الدولة بصيغة واضحة، بيد أن سداد ديونها لمصرف لبنان، والتي تقدّر بنحو 16.5 مليار دولار من دون فوائد، وتصل إلى 21 مليار دولار مع الفوائد. ويعتبر أنّ النص الوارد في المشروع “غير مُلزم”، إذ يربط السداد بمبدأ استدامة الدين العام، من دون جدول زمني أو آلية واضحة. ويذكّر بنقطة قانونية أساسية وردت في المادة 13 من قانون النقد والتسليف، التي تنصّ على أنّ توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان تُعدّ أعمالًا تجاريةً مستقلةً وهي التزامات المصرف المركزي تجاه المصارف التجارية، ولا يجوز إدخالها ضمن معادلة إعادة هيكلة الدين العام. وفيما يستهدف المشروع المساهمين والمديرين في المصارف، ويفرض عليهم إعادة الودائع التي حُوّلت إلى الخارج بعد نيسان 2019 أو دفع غرامة بنسبة 30%، يلفت غبريل إلى وجود استثناءات مثيرة للاستغراب للودائع التي حُوّلت بعد تشرين الأول 2019 لأسباب تجارية أو تعليمية أو صحية، ما يشكّل، برأيه، خرقًا واضحًا لمبدأ المساواة بين المودعين.
الذهب كخيار بديل لاستعادة الثقة
يشير غبريل إلى أنّ قيمة احتياطي الذهب ارتفعت بنحو 26 مليار دولار ما بين عام 2019 ونهاية 2025. وهو يطرح مقاربةً بديلةً لا تقوم على تسييل الذهب أو بيعه، بل على الاستفادة من ارتفاع قيمته عبر أدوات مالية عالمية تُتيح تأمين سيولة فورية قد تصل إلى 12 مليار دولار، شرط إقرار ذلك عبر تصويت صريح في مجلس النواب.
ويضيف أنّ هناك خططًا بديلةً لتسديد الودائع أكثر واقعية وتؤدّي إلى صدمة إيجابية تقضي بدفع مصرف لبنان 20% من الودائع لجميع المودعين دفعةً واحدةً، على أن يُقَسَّطَ المبلغ المتبقّي على فترة تتراوح ما بين خمس وسبع سنوات ويوزّع مناصفةً بين المصارف والمصرف المركزي، ما من شأنه إحداث صدمة إيجابية حقيقية وإعادة الثقة المفقودة.
النقابات وصناديق التقاعد وصندوق النقد الدولي
وينتقد غبريل الغموض الذي يلفّ النصّ الحالي بخصوص أموال النقابات وصناديق التقاعد، مؤكدًا أنّ هذه الأموال تمثل حقوقًا خاصةً لا يجوز المساس بها أو تجاهلها.
وعن صندوق النقد الدولي، فيشير إلى أنّ الصندوق يضغط لإقرار القانون كشرط أساسي للتوصل إلى اتفاق إصلاحي تمويلي مع الحكومة اللبنانية، ويدفع باتجاه شطب رساميل المصارف كخطوة أولى. إلّا أنّ غبريل يحذّر من أن هذا المسار، وإن كان يُرضي الصندوق، قد يقضي عمليًّا على أي أمل بإعادة جذب الاستثمارات إلى القطاع المصرفي.
ويختم غبريل بالتحذير من أنّ إقرار القانون بصيغته الحالية قد يكرّس الاقتصاد النقدي (Cash Economy) واقتصاد الظلّ، ما يقضي على ما تبقّى من بُنية مالية منظّمة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
صندوق التعويضات يُطلق الإنذار: 350 مدرسة فقط تلتزم من أصل 1350! | “الفجوة المالية”: إعدام جماعي للودائع والمصارف بقوّة القانون | قانون الإيجارات يُفجّر الصراع مُجدّدًا: الشارع في مواجهة الملكيّة! |




