قانون “الفجوة المالية”: الدولة تُنقذ نفسها وتُغرق المودعين…

بعد إقرار قانون “الفجوة المالية” في مجلس الوزراء، تقع المسؤولية اليوم على مجلس النواب لردّه وإعادة تعديله بما يحمّل الدولة المسؤولية أولًا، ويعتمد مقاربةً عادلةً تحمي حقوق المودعين، وتؤمّن مبدأ المحاسبة، وتمنع تدمير ما تبقّى من القطاع المصرفي.
كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:
بعد أن أقرّ مجلس الوزراء مشروع قانون الفجوة المالية، المعروف أيضًا بـ”الانتظام المالي”، يبدو أنّ الحكومة وضعت أولويةً غير مفهومةٍ لصالح “صندوق النقد الدولي”، وحماية أصول مصرف لبنان، على حساب حقوق المودعين الذين دفعوا بالفعل ثمن الأزمة المالية. فالمودعون، سواء من الفئة المتوسطة أو كبار المودعين، يُعْرَضُ عليهم اليوم ما يسمّى بـ”سندات قابلة للتداول”، بشروطٍ غير واضحة وآجالٍ طويلة، فيما يظلّ الخطر الأكبر المتمثّل في خسائر فادحة من ودائعهم قائمًا.
منذ بداية الأزمة، خسر اللبنانيون مليارات الدولارات، واليوم يُقدَّم لهم ما يُسمّى تعويضًا، لكنّه في الواقع سندات مجهولة القيمة، لا يمكن تحديد قيمتها الفعلية، وعلى الرغم من تطمينات رئيس الحكومة، فإنّ المودعين سيواجهون اقتطاعات كبيرة من أموالهم، بشكلٍ عملي وملموس، ما يجعل القانون الجديد يبدو وكأنّه يحمي الدولة و”مصرف لبنان” أكثر ممّا يحمي ودائع الناس.
يعكس مشروع قانون الفجوة المالية سيطرة صندوق النقد الدولي على السياسات اللبنانية، حيث تُملي المؤسسة الدولية شروطها على لبنان، ما يؤدّي عمليًا إلى نقل الخسائر من الدولة ومصرف لبنان إلى المودعين. هذا النّهج، بحسب الخبراء، غير قابل للاستمرار وقد يدفع القطاع المصرفي بأكمله إلى حافة الانهيار الكامل. ويُضيف المراقبون أنّ دَيْنَ الدولة البالغ نحو 16.5 مليار دولار لن يتمّ سداده، ليُصبح العبء النهائي على كاهل المودعين، الذين سيجدون أنفسهم مضطرّين لتحمّل تبعات السياسات المالية التي يفرضها الخارج على حساب حقوقهم وأموالهم.
يُشير الخبراء إلى أنّ الانهيار في لبنان هو نتيجة عقود من سوء إدارة الدولة ومصرف لبنان، والسياسات المالية الخاطئة، وسوء استخدام الموارد العامة، وهو ما اعترف به رئيس الحكومة نواف سلام بقوله: “عشنا ست سنوات من الشلل وسوء إدارة الأزمة المالية، وهذا جزء كبير من المشكلة، وليس خطأ المصارف، بل خطأ الدولة”.
إلّا أنّ مشروع قانون الفجوة المالية لا يقرّ بالمسؤوليات بشكل عادل، بل يتسم بطابع انتقامي تجاه المصارف، وفي نهاية المطاف يكون المودعون هم مَن يدفعون الثمن الحقيقي، حيث يواجهون اقتطاعات كبيرة من ودائعهم وتحويل خسائر الدولة والقطاع المصرفي عليهم بطريقة مباشرة وغير شفافة.
على الدولة واجب قانوني وأخلاقي بإعادة رسملة مصرف لبنان ومُعالجة الخسائر الناتجة عن سياساتها المالية المتعثّرة. كما يجب على الدولة التوقّف عن الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي، ووضع الموارد المالية اللّازمة للوفاء بالتزاماتها القانونية تجاه المودعين والمواطنين.
وعلى الرغم من حديث رئيس الحكومة عن استعادة حقوق الناس، فإنّ مشروع قانون الفجوة المالية ينتهك أبسط هذه الحقوق، بما في ذلك المُساءلة وتحمّل المسؤولية، ويحوّلها إلى شعارات بلا أثر عملي، بينما يظلّ العبء الأكبر على المودعين الذين خسروا بالفعل مليارات الدولارات.
يجب على الدولة ومصرف لبنان استخدام الأصول العامّة لتغطية التزامات المودعين، كما تفرض الأطر القانونية لضمان حماية حقوق المواطنين الذين استثمروا ودائعهم. غير أنّ الخطة الحالية تتجاهل هذا الخيار، وتركّز بدلًا من ذلك على حماية أصول الدولة ومصرف لبنان على حساب المودعين، ممّا يحوّلهم إلى المتضرّرين الرئيسيّين من السياسات المالية القائمة، ويجعل حقوقهم في استرداد أموالهم مجرد شعارات بلا تطبيق فعلي.
إنّ التوصّل إلى حل عادل ومتوازن يشكّل شرطًا أساسيًا لفكّ تجميد الودائع وإعادة تحريك الائتمان المخصّص للأسر وروّاد الأعمال، وهو المدخل الوحيد لأي نهوض اقتصادي حقيقي. فبينما يروّج رئيس الحكومة لهذا القانون على أنّه مسار لـ”استعادة الحقوق”، فإنّ الواقع يُظهر أنّ لا تعافٍ ممكنًا من دون قطاع مصرفي سليم وقابل للحياة.
إنّ الخطة المطروحة، بصيغتها الحالية، تضع المصارف التجارية على طريق التدمير المنهجي، وتدفع الاقتصاد أكثر نحو النقد والفوضى، ما يُفاقم فقدان الثقة، ويُلحق بلبنان أضرارًا إضافيّةً بدل أن يخرجه من أزمته العميقة.
إنّ وجود قطاع مصرفي قادر على الاستمرار ليس تفصيلًا تقنيًّا، بل شرطًا جوهريًّا لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد، وخلق فرص العمل، واستعادة الحد الأدنى من الأمل لدى اللبنانيين. وبينما يؤكّد رئيس الحكومة أنّ هذا القانون سيُفضي إلى “استقرار اجتماعي”، فإنّ الحقيقة مغايرة تمامًا: لا استقرار من دون ثقة، ولا ثقة إذا انهارت المصارف التجارية وتعرّض المودعون لخسائر جسيمة.
وعليه، تقع على عاتق الدولة مسؤولية قانونية صريحة، بموجب قانون النقد والتسليف، لإعادة بناء الثقة بالنظام المالي، لا عَبْرَ تحميل الخسائر للمودعين، بل من خلال تحمّل مسؤولياتها وإصلاح الخلل الذي كانت سببًا رئيسيًّا فيه.
بعد إقرار هذا القانون في مجلس الوزراء، تقع المسؤولية اليوم على مجلس النواب لردّه وإعادة تعديله بما يحمّل الدولة المسؤولية أولًا، ويعتمد مقاربةً عادلةً تحمي حقوق المودعين، وتؤمّن مبدأ المحاسبة، وتمنع تدمير ما تبقّى من القطاع المصرفي. كما يجب رفض تحويل لبنان إلى ساحة تنفيذٍ أعمى لإملاءات صندوق النقد الدولي من دون مراعاة الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
لقد عانى اللبنانيون بما فيه الكفاية، ولا يمكن معالجة الأزمة عبر التضحية بالمصارف والمودعين معًا. المطلوب تحرّكٌ فوري من الدولة ومصرف لبنان لاستعادة الثقة والاستقرار المالي قبل فوات الأوان.




