قانون الفجوة المالية: سرقة منظّمة باسم الإنقاذ


خاص 31 كانون الأول, 2025

القانون، كما يُطرح اليوم، يبدو أقرب إلى إدارة للخسائر منها إلى حل فعلي للأزمة، إذ يركّز على نتائج الانهيار لا على أسبابه، ويؤسّس عملياً لـ”هيركات” مقنّع وتآكل تدريجي للودائع، مقابل إعفاء شبه كامل للدولة

كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:

في خضمّ النقاش المحتدم حول قانون معالجة الفجوة المالية ورفع السرية المصرفية، تتكشّف مرة جديدة الإشكالية البنيوية التي طبعت إدارة الأزمة المالية في لبنان منذ بداياتها: تشريعٌ يُقدَّم بوصفه خطوة إصلاحية مفصلية، لكنه في جوهره يعكس مقاربة مجتزأة للأزمة، تتجنب مواجهة جذورها الحقيقية وتوزيع مسؤولياتها بعدالة وشفافية. فبينما يُسوَّق القانون على أنه كسرٌ لمحظورات تاريخية عبر رفع السرية المصرفية من دون استثناءات، تتقاطع مواقف النائب رازي الحاج ووزير الاقتصاد الأسبق آلان حكيم عند نقطة أساسية: لا قيمة لأي أداة رقابية أو تشريعية ما لم تُدرج ضمن رؤية متكاملة تُحدِّد حجم الخسائر بدقة، وتُسمّي المسؤولين عنها بوضوح، وتُلزم الدولة ومصرف لبنان والمصارف بتحمّل أعبائهم كاملة من دون مواربة أو انتقائية.

إنّ خطورة المقاربة المطروحة لا تكمن فقط في ثغراتها التقنية أو الدستورية، بل في فلسفتها العامة التي تنقل عبء الانهيار من الفاعلين الأساسيين إلى المودعين، ولا سيما الطبقة المتوسطة وصناديق التقاعد والنقابات، تحت عناوين فضفاضة كـ”حماية صغار المودعين” أو “الضرورة المالية”. فالقانون، كما يُطرح اليوم، يبدو أقرب إلى إدارة للخسائر منها إلى حل فعلي للأزمة، إذ يركّز على نتائج الانهيار لا على أسبابه، ويؤسّس عملياً لـ”هيركات” مقنّع وتآكل تدريجي للودائع، مقابل إعفاء شبه كامل للدولة.

وعليه، فإنّ أيّ قراءة نقدية جادة لهذا المسار التشريعي لا يمكن أن تنفصل عن السؤال الجوهري المتعلّق باستعادة الثقة: كيف يمكن لمواطن أو مستثمر أن يطمئن إلى نظام مصرفي لم تُحدَّد بعد مسؤوليات انهياره، ولم تُحاسَب الجهات التي راكمت الخسائر منذ أكثر من عقد؟ من هنا، تتجاوز هذه الإشكالية حدود قانون بعينه، لتلامس جوهر العقد الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، وتضع البلاد أمام مفترق طرق حاسم: إما استكمال نهج التسويات الشكلية التي تؤجّل الانفجار، أو الذهاب نحو مقاربة شاملة تُعيد الاعتبار لمبدأ العدالة، والمحاسبة، ودور الدولة كضامنٍ لا كمتنصّلٍ من التزاماته.

قال النائب رازي الحاج إنّ مجلس النواب أقرّ في 24 نيسان 2025 قانون رفع السرية المصرفية عن جميع الحسابات من دون أي استثناء، بما يشمل حسابات السياسيين، المدراء العامين، أصحاب المصارف ومديريها، وسائر المودعين، ما يتيح للهيئات الرقابية والقضائية الاطلاع الكامل على هذه الحسابات وممارسة صلاحياتها القانونية.

وفي هذا الإطار، أشار الحاج إلى أنّ القانون، على أهميته، يعاني من ثغرتين أساسيتين. الأولى، أنه غير مبني على أرقام، إذ لم يحدّد حجم الفجوة المالية بشكل واضح. أما الثانية، فتتمثل في غياب تحديد واضح لمسؤولية كل طرف في هذه الفجوة، سواء المصارف، أو الدولة، أو مصرف لبنان.

وانتقل الحاج إلى شرح الأسباب التي أدّت إلى ضياع أموال المودعين، موضحًا أنها نتجت عن مسارين أساسيين: الأول تمثّل في السياسة النقدية التي استُخدمت لدعم سعر الصرف وتمويل الاستيراد، والثاني في السياسة المالية التي موّلت عجز المالية العامة على مدى سنوات.

وشدد الحاج على أنّ أي حل جدي يجب أن يقوم على توزيع الفجوة المالية بشكل عادل بين الأطراف الثلاثة: الدولة، مصرف لبنان، والمصارف، مؤكدًا ضرورة عدم إعفاء أي طرف من مسؤولياته. واعتبر أنّ هذا المسار من شأنه حماية أموال الحسابات التي تفوق 100 ألف دولار، ولا سيما تلك العائدة إلى النقابات المهنية وصناديق التعاضد والتقاعد والضمان الاجتماعي، التي تشكّل شبكة أمان اجتماعي لمئات آلاف المتقاعدين والمستفيدين.

وفي المقابل، انتقد تركيز المشروع المطروح على آخر حلقة من الأزمة، ولا سيما فرض ضريبة بنسبة 30% على من حوّلوا أموالهم إلى الخارج، معتبرًا أنّ هذه المقاربة تعفي فعليًا من استفاد سابقًا من أي مساءلة حقيقية، في حين تُقيّد حقوق من لم يتمكن من التحويل، عبر حصر استرداد ودائعه بسقف 100 ألف دولار موزعة على أربع سنوات.

كما حذّر الحاج من أنّ ضخّ مبالغ كبيرة في السوق خلال فترة قصيرة للاستهلاك فقط، ومن دون تحفيز الاستثمارات، قد يؤدي إلى تضخّم وتباطؤ اقتصادي في آنٍ واحد. وتساءل في هذا السياق عن طبيعة السندات المقترحة ومصادر ضمانها، وما إذا كانت مدعومة بالذهب رغم وجود قانون يمنع المساس به أو بإيرادات مصرف لبنان، معتبرًا أنها قد تتحول إلى مجرد وعود غير قابلة للتنفيذ.

وأكد في ختام موقفه أنّ الحل الحقيقي يبدأ بتفعيل مبدأ المحاسبة، وتحميل الأطراف الثلاثة مسؤولياتها كاملة، وإطلاق عجلة الاقتصاد لإعادة بناء الثقة بالنظام المصرفي، متسائلًا:

“إذا تلقّى المواطن اليوم حوالة بقيمة 100 ألف دولار نقدًا من الخارج، هل يمكنه أن يودعها في المصرف وهو مطمئن؟”

من جهته، أكد وزير الاقتصاد الأسبق، آلان حكيم، أنّ القانون المطروح حالياً يشكل “مشكلة دستورية كبيرة” وينتهك مبدأ المساواة بين المواطنين، مشيراً إلى أنّ كلفة الأزمة تتحملها فئة واحدة وهي المودعون، بينما تُعفى الدولة ومصرف لبنان من أي مسؤولية فعلية.

وقال حكيم إنّ الدولة هي المسؤول الأول عن “الفجوة المالية”، التي نتجت عن الفساد والسرقة والهدر، وليس عن تصرفات المودعين. واعتبر أنّ السياسات النقدية والمالية السابقة كانت فاشلة وأدت إلى خسائر جسيمة، مما يمثل خرقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية والحق الدستوري في حماية الملكية الخاصة و في تحمل الدولة نتائج أفعالها.

وحذّر من أنّ القانون، في شكله الحالي، يُستغل لتغطية إخفاقات الماضي ومنح حصانة تشريعية للمسؤولين، مشيراً إلى أنّ قرار الحكومة ورئيسها بعدم دفع مستحقات اليوروبوندز في 2020 كان له آثار سلبية كبيرة رجعية على الاقتصاد من خلال السياسات الخاطئة للحكومات المتتالية و لمصرف لبنان.

وأشار حكيم إلى أنّ القانون يكرس “هيركات مقنع” يتجاوز 70% من خلال تجميد الأموال أو تقسيطها لسنوات طويلة، وهو ما يؤدي إلى فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، ويضعف قدرة الدولة على التفاوض مع المستثمرين الدوليين، ويزيد من الانكماش وهروب الرساميل وينسف مبدأ المحاسبة.

ويسأل الوزير حكيم: “ماذا عن اليوم التالي لإقرار القانون؟ أين خطة النهوض الاقتصادية والمالية الشاملة لدولة لبنان؟ فيما يجب أيضاً ذكر المخاطر القانونية والاقتصادية التي لها أثر مباشر على سمعة الدولة الائتمانية وقدرتها على التفاوض مع المستثمرين الدوليين، بعد تحميل العبء للمودعين والمستثمرين على مرحلة ست سنوات. فكيف تستعاد الثقة بالقطاع المصرفي والمالي؟

وفي ما يخص الحلول، أكد حكيم على ضرورة تحميل الدولة جزءاً أساسياً من الخسائر عبر أصولها، ومحاسبة المسؤولين عن السياسات و القرارات الخاطئة، وإعادة هيكلة الدين العام بطريقة عادلة، وضع خطة تعافٍ شاملة وضخّ سيولة مالية من أرباح الذهب والاحتياطي الإلزامي عبر تطبيع القطاع المصرفي من ناحية المداولة. كما شدد على أهمية الإدارة الرشيدة والحوكمة والشفافية، بدلاً من اللجوء إلى حلول سحرية غير مستدامة.

ولفت حكيم إلى أنّ الفئات المتضررة تشمل الطبقة المتوسطة، وصناديق التقاعد، والمودعين الذين يعتمدون على أموالهم للعيش بكرامة في سنوات تقاعدهم القادمة، وليس فقط الأثرياء.

وفي الكواليس السياسية، كشف حكيم عن الضغوط الدولية، خاصة من صندوق النقد الدولي، لإنهاء الأزمة المستمرة منذ ست سنوات، مؤكداً أنّ بعض الوزراء الذين صوّتوا مع القانون ليس لديهم تمثيل سياسي طويل الأمد، بينما صوّتت أحزاب أخرى ضدّه لحماية قواعدها الشعبية.

وأضاف أنّ القانون سيذهب إلى المجلس النيابي ليتم تعديله بمشاركة خبراء وجمعيات، لكنه أكد: “لا يوجد خروج من هذه الجورة دون وجع”.

وختم حكيم وصف الأزمة الحالية بأنها “جورة عميقة وممتلئة”، مشبّهاً التعامل معها بالقوانين المطروحة بمحاولة “ساحر أن يخرج أرنباً من قبعته”، في إشارة إلى حلول مؤقتة وغير مستدامة تتجاهل المسؤولية والمحاسبة لمن تسبّب بالأزمة في المقام الأول.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us