على نارِ لبنان تَنضُج التسوية
عند انطلاقها، بدت «ثورة» 17 تشرين وكأنّها آخر فرصة لابتكار حلّ ينقذ لبنان. وفيما كانت «الثورة» تتخبَّط في فشلها، جاءت كارثة المرفأ لتمنح لبنان فرصة نهوض جديدة، ولكن عبثاً. والآن، تتعمَّق كارثةٌ أكبر، هي الانهيار والسقوط والتحلُّل. وثمة من يعتقد أنّ «الثالثة» لا بدّ أن تُنتِج التسوية… ولكن أي تسوية؟
كانت واشنطن، بإدارة دونالد ترامب، الأكثر حماسة لـ«ثورة» 17 تشرين. وفي رؤيتها أنّ إسقاط منظومة السلطة الحالية، تحت ضغط الشارع المحتقن، سيُسقِط سيطرة «حزب الله» وإيران على القرار.
تعثرت هذه الرؤية. وبعد انفجار 4 آب، ظهرت فرنسا راعية رسمية للحل.
لم يفهم اللبنانيون مغزى التحذيرات الفرنسية المتكرِّرة، من أن لبنان، سيكون مُعرَّضاً للتحلّل والزوال وعلى رغم ذلك، تمّ إفشال المبادرة الفرنسية.
في العام 2019، لم يرغب الأميركيون في مراعاة الخيار الفرنسي في لبنان، باعتباره مهادناً لإيران. لكنهم مع بايدن صاروا أكثر تفهماً له. واليوم، الأميركيون والفرنسيون، ومعهم العرب، يذهبون معاً إلى طرحٍ جديد- قديم ربما يذكّر بالطائف أو بالدوحة…
لقد فشل منحى المواجهة الأميركية لإنتاج حلّ، وفشل منحى الاستيعاب الفرنسي لإنتاج حالة وسطى ما بين الحل والتسوية المرحلية. وينزلق لبنان إلى المنحى الثالث، منحى التسوية المرحلية، حيث الحلّ بمعنى الثبات والديمومة بات أمراً بعيد المنال.
يعني ذلك انتقال المبادرة من أيدي الأميركيين والفرنسيين والعرب إلى شراكة جديدة، ظهر فيها على الأقل حتى الآن الرئيس السوري بشّار الأسد. ويبقى الدور الإيراني قيد الترصُّد.
إذاً، في هذه المرحلة، لا «الثورة» ولا الانفجار هما الوقود الذي سيُنضِج التسوية، بل الانهيار والفقر والجوع . ولذلك، إنّ الوقت الذي ستستغرقه صناعة التسوية مرهون بمدى قوة النار المشتعلة وقابلية عناصر التسوية للإنضاج.
هذا التشخيص للأزمة كافٍ لتبرير لماذا يتعثر تأليف الحكومة منذ 13 شهراً، من دون أسباب مقنعة، وكافٍ لتفسير لماذا تتنكَّر منظومة السلطة لأي خطوة إنقاذ اقتصادي أو مالي فالمطلوب مزيد من الاهتراء والوجع والجوع وانهيار المؤسسات والأجهزة.
فهل كان الناس سيتقبّلون مثلاً رفع أسعار البنزين من 25 ألف ليرة للصفيحة إلى 380 ألفاً- كما يُتوقع- ما لم يتمّ إذلالهم بالطوابير؟ وكذلك الخبز والدواء وفاتورة مولِّد الكهرباء وسوى ذلك؟
واستطراداً، هل كان سيندفع لبنان الرسمي- وحتى بطلب أميركي- إلى أحضان بشار الأسد، ويطلب منه النجدة بالكهرباء والغاز، لو انتصرت ثورة 17 تشرين أو مبادرة ماكرون ؟
وأساساً، هل كانت ستقع هذه الكارثة الاقتصادية لو تمت الاستجابة لمتطلبات الإصلاح باكراً، وحصل لبنان على أموال «سيدر» ونجحت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؟
لذلك، واضح أنّ فريق السلطة يتعمّد حالياً تعميق الاهتراء للوصول إلى فرض خيارات سياسية معينة.
فالمطلوب هو إبقاء النار مشتعلة لإنضاج «تسوية ما» يجري التفكير فيها. ويُخشى أن يتمّ رفع درجة الحرارة إلى الحدّ الأقصى، لتسريع الإنضاج، ولو اقتضى ذلك احتراق لبنان.
المصدر: طوني عيسى – صحيفة الجمهورية