لقاء إسطنبول: محاولات لكسر جمود الحرب الروسية الأوكرانية بغياب بوتين وحضور زيلينسكي

في خطوة مفاجئة للمراقبين، أعلن الكرملين عن غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن المفاوضات المرتقبة بين روسيا وأوكرانيا في مدينة إسطنبول التركية، ما خفّف من سقف التوقعات بشأن نتائج هذه الجولة التي كان يُعوّل عليها دوليًا لإعادة إحياء مسار السلام المتعثر منذ عام 2022.
الكرملين يحسم: بوتين لن يشارك
نُشر مرسوم رسمي على موقع الكرملين يؤكد أن الرئيس بوتين كلف وفدًا رفيع المستوى لتمثيل روسيا في المباحثات، يضم مستشاره فلاديمير ميدينسكي، ونائب وزير الدفاع ألكسندر فومين، ومدير إدارة الاستخبارات العسكرية الجنرال إيغور كوستيوكوف، وهي أسماء سبق أن شاركت في مفاوضات سابقة جرت عقب اندلاع الحرب.
ورغم غياب بوتين، شدد الكرملين على “الثقة الكاملة” بوفده المفاوض، في إشارة إلى جدية موسكو في الحضور دون التورط في التزامات شخصية قد تقيد هامش المناورة الروسية.
زيلينسكي يتجه إلى أنقرة: كييف ترفع مستوى التمثيل
في المقابل، أعلنت مصادر أوكرانية أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي قرر المشاركة شخصيًا في المحادثات، مؤكدة أنه في طريقه إلى العاصمة أنقرة، وهو ما يعكس رغبة أوكرانيا في إضفاء طابع سياسي رفيع على هذه الجولة من التفاوض، وفرض ثقلها في لحظة مفصلية من الصراع.
ويُعتبر هذا الحضور المباشر لزيلينسكي بمثابة رسالة قوية للداخل والخارج، بأنّ كييف مستعدة للسلام ولكن بشروط واضحة، تستند إلى استعادة سيادتها الكاملة ورفض أي صفقات تؤدي إلى فقدان أراضٍ لصالح روسيا.
ترامب يغيب والوفد الأميركي يحضر
الموقف الأميركي، بدوره، شهد نوعًا من التذبذب. فالرئيس السابق دونالد ترامب، الذي أعرب سابقًا عن رغبته في حضور المحادثات بشرط مشاركة بوتين، أعلن في النهاية أنه لن يتوجه إلى إسطنبول. وبدلاً منه، ستشارك واشنطن بوفد يرأسه وزير الخارجية ماركو روبيو، ويضم مبعوثين بارزين كستيف ويتكوف وكيث كيلوغ.
تصريحات روبيو أكدت انفتاح الولايات المتحدة على دعم أي مبادرة من شأنها “أن تفضي إلى سلام عادل”، دون أن توضح حدود هذا “العدل” أو موقف واشنطن من الحديث المتزايد عن إمكانية الاعتراف ببعض المكاسب الروسية الميدانية.
لولا دا سيلفا يضغط على بوتين
الدعوة الأبرز للمشاركة جاءت من الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي أعلن صراحة أنه سيحضّ بوتين على التوجه إلى إسطنبول للقاء زيلينسكي، معتبرًا أن الأمر “لن يكلّفه شيئًا”، وأن مجرد حضوره قد يفتح كوة في جدار الأزمة.
وجاء موقف لولا بعد بيان مشترك بين الصين والبرازيل رحّب بمقترح بوتين باستئناف المفاوضات، واعتبر أن “الحوار المباشر هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراع”، ما يعكس توجها دوليًا متناميًا للبحث عن تسوية سياسية بعد سنوات من الاستنزاف العسكري والاقتصادي.
التصعيد مستمر: ضحايا في بيلغورود
في الوقت الذي تتحرك فيه الوفود باتجاه إسطنبول، لم يتوقف التصعيد الميداني. فقد أعلنت السلطات الروسية إصابة 16 شخصًا في منطقة بيلغورود جراء هجمات أوكرانية بالطائرات المسيّرة، فيما قالت وزارة الدفاع الروسية إنها أسقطت 12 طائرة مسيّرة أوكرانية في الليلة نفسها، ثلاث منها فوق المنطقة ذاتها.
هذا التدهور الأمني يسلط الضوء على هشاشة الوضع العسكري ويضع المفاوضات تحت ضغط الواقع المتفجر، حيث يمكن لأي هجوم أو تصعيد أن ينسف الطاولة قبل أن تُرتب أوراقها.
ماكرون: على كييف أن تدرك حدودها
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دخل على خط النقاش من زاوية أخرى، إذ اعتبر أن “الأوكرانيين يدركون أنهم لن يستعيدوا كل أراضيهم”، في إشارة إلى أن تسوية قادمة قد تتضمن تنازلات إقليمية ضمنية أو صريحة.
وأضاف ماكرون أنّ أوكرانيا لن تنضم إلى حلف الناتو في ظل عدم وجود توافق غربي حول ذلك، داعيًا إلى وقف فوري لإطلاق النار باعتباره “ضرورة ملحّة”، في ظل ارتفاع عدد الضحايا من المدنيين والعسكريين يوميًا.
مسار طويل لم يبدأ بعد
مفاوضات إسطنبول، وإن بدت واعدة شكليًا بسبب مشاركة زيلينسكي وحضور وفود دولية، تبقى محفوفة بالشكوك، لا سيما في ظل غياب بوتين وعدم وضوح النوايا الروسية الحقيقية، فضلًا عن غموض الموقف الأميركي وتردد الحلفاء الأوروبيين.
الواقع يشير إلى أن موسكو لا تزال ترى في الحرب وسيلة لفرض شروطها على الأرض، بينما تتمسك كييف، بدعم غربي، برفض أي تفاوض يمس وحدة أراضيها أو سيادتها.
وحتى اللحظة، يسيطر الجيش الروسي على حوالي 20% من الأراضي الأوكرانية، بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وأربع مناطق جديدة في الجنوب والشرق خلال الحرب المستمرة منذ شباط 2022.
لقاء إسطنبول هو خطوة صغيرة ضمن مسار طويل ومعقد، لن تبدأ فعليًا إلا بلقاء مباشر بين بوتين وزيلينسكي، وهو ما يبدو بعيدًا حتى الآن، رغم دعوات دا سيلفا وضغوط حلفاء كييف. ومع غياب ترامب، وتراجع الاندفاع الغربي نحو الحل، تبقى المبادرة رهينة الحسابات الروسية، وميزان القوى على الأرض.
وحتى إشعار آخر، سيظل الحوار حبيس القاعات المغلقة، فيما يواصل المدنيون دفع ثمن حرب قد تطول أكثر مما يتخيله الجميع.